عن (انتخابات) المجالس المحلية في الجولان المحتل
نجاة عبد الصمد 4 تشرين الثاني / جيرون
يقترن اسم الجولان في ذاكرة السوريين، برفض أبنائه للهوية الإسرائيلية، بندائهم الحار من خلف الأسلاك الشائكة إلى أنصاف قلوبهم في الوطن الأم: “سلامٌ يا أبي يا ابني يا ابنتي يا أخي يا أختي، طمئنونا عنكم فنحن مشتاقون”، وبِدوّي حناجر أبنائه أمام كل نائبةٍ جديدة أنهم سوريو الأصل والهوى والانتماء.
مرّ خمسون عامًا على الجولان تحت خنقة الاحتلال، ولم تفوّت “إسرائيل” خلالها طريقة أو محاولة لأسرلة المكان وآهليه، قليلها بالجزرة وغالبيتها بالعصا، ولم تفلح جميعها!
ربما عاش أهالي الجولان في رخاءٍ نسبيّ، في ظل حكومة “إسرائيل”، قياسًا إلى مواطنيهم في سورية نفسها، إلّا أنّ هذا الرخاء ليس منّةً عليهم من حكومة “إسرائيل” بقدر ما أردفه سعيهم واجتهادهم لكسب رزقهم ورفع مستوى حياتهم، على الرغم مما جلبه عليهم رفض الهوية الإسرائيلية.
سارت شؤون حياتهم الخدمية بتعيين ممثلين للمجالس المحلية في قراهم، ناوروا سلطة الاحتلال لتجاوز كل تضييقاتها على كل مطالبهم واحتياجاتهم الخدمية الفعلية، التي دأبت الحكومة على رفضها أو تلبيتها بعسر بقصد إخضاعهم، وكانوا يختارون تنفيذها على حسابهم الخاص، بالتعاون في ما بينهم، مع الثبات على موقفهم برفض الخضوع لحكومة الاحتلال أو حتى الاعتراف بها.
خمسون عامًا ولم تتعدّ نسبة من استطاعت “إسرائيل” إقناعهم بحمل جنسيتها أكثر من 12 بالمئة من عدد السكان، وأعلنتْ حكومتها في هذا العام، خلافًا لما سبق، عملية (انتخاب المجالس المحلية في الجولان) التي لن يترشّح إليها إلا حاملو الجنسية الإسرائيلية، أي الشريحة الضئيلة التي ستفرضها “إسرائيل” على غالبية الأهالي الرافضين التجنيس.
انطلق الحراك في الجولان مع إعلان (الانتخابات)، نادى الحراك الشبابي، بخطابه الوطني والموحد والقوي والحار والطازج، بعدم شرعنة هذه الانتخابات، كونها ليست أكثر من ذريعة لاختراق هذا المجتمع في هويّته، وشرعنة ما هو غير شرعي أصلًا وهو فكرة الاحتلال تمهيدًا لضم الجولان رسميًا إلى حدود “إسرائيل”.
أطلق شباب وصبايا الجولان، بحراكهم الشبابي، الوعيَ الاجتماعي الجمعي، الإصرار على فكرة الهوية والفطرة السورية. توجهوا بحوارهم الحضاري والعقلاني إلى كافة فئات المجتمع، على اختلاف مواقفهم من القضايا التفصيلية، بأن التمثيل السياسيّ لأبناء الجولان يجب أن يبقى شعبيًا وحرًا من سلطة الاحتلال. ودعوا المرشحين إلى الانسحاب طوعًا من لوائح الترشيح، كما دعوا جميع الأهالي إلى الإضراب العام، والاعتصام أمام مراكز الاقتراع، مع اجتناب العنف بكل أشكاله اللفظية أو المعنوية، ووضع قاعدة السلم الأهلي في أعلى سلّم أولوياتهم، مؤكدين أن ما سيبقى بينهم هو تكافلهم الاجتماعي ونظرتهم البعيدة إلى الغد. ودعوا إلى عدم إعطاء الشرعية لدولةٍ قامت أصلًا على احتلال أرض فلسطين، واتخذت من اليهودية هوية لها، قبل أن تغتصب أرضهم بالقوة، وتنفرد باستثمار مواردها، وتبني مستوطناتها اليهودية فوق أجزاء منها، وهي حتى اليوم لا تساوي بين مواطنيها إلا في تحصيل الضرائب، بينما تميّز بينهم كيهود أو غير يهود، بل قد أصبح مشروع إقرار “إسرائيل” كدولة يهودية واقعًا منذ عدة شهور، وهي من قبلُ دولة تمييز عنصري، بين اليهود أنفسهم وبين اليهود والعرب، ولا تستحيي في معاداتها أو محاولات تهجير كل ما هو غير يهودي. إن دولة كهذي لن تتسع لأحلام شعبٍ يحمل إرثًا وطنيًا ورؤية مستقبلية، لن يرضى بأقل من دولة مواطنة متساوية، ورفض التفرقة الثقافية أو السياسية ورفض الظلم بجميع مظاهره.
إن اختلف أبناء الجولان في ما بينهم، بين مؤيّد ومعارض لنظام الحكم في سورية، في ظل المآلات المأسوية التي انتهت إليها ثورة الشعب السوريّ، التي كان دور “إسرائيل” فيها واضحًا في إطالة أمد الحرب وعمر النظام حتى تدمير سورية؛ فإنهم في الوقت ذاته يؤرقهم السؤال عن مصيرهم، بين ضغوط “إسرائيل” عليهم يومًا بيوم بل ساعة بساعة من جهة، وبين حال الخراب العميم الحاضر في سورية من جهةٍ أخرى، حيث لا حكومة تمد لهم يد العون أو السند أو حتى تلتفت إلى معاناتهم. وهم، في هذي الحال التي يرون أنفسهم فيها متروكين يقبضون على جمر مبدأ الكرامة، يُصرّون على أن صراعهم الحقيقي الوحيد هو ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لا سواه، وأن اختيارهم لن يكون إلا الانتماء إلى سوريتهم، وإنْ لم تُبقِ منها الحرب في حاضر الحال سوى إرثٍ يحيا بهم ومعهم، وحلمٍ لن يموت حيث لا كرامة إلا به ومعه.
هي كرامة الإنسان فيهم، راهنوا على خسران أي شيء إلا على خسرانها.