
مشاهد من الحرب
المشهد الأول.. الجولان دروع بشرية
ابمن ابو جبل
موقع مقام النبي ايليا (عليه السلام) شمالي قرية مسعدة وشرقي قرية عين قنية، اصبح مكانا مألوفا لمشاهدة بعضا من تفاصيل الحرب المشتعلة في الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي. من هناك تستطيع مشاهدة صواريخ المقاومة اللبنانية تسقط على المستعمرات الإسرائيلية في الشمال، وتستطيع ان تشتم رائحة بارود القذائف الإسرائيلية ورؤية وميض اللهب الصادر عن المدفعية الإسرائيلية. نيران وحرائق ودخان تلتهم الإنسان والجماد والحيوان والنبات، ودوي القصف يؤذن بسقوط المزيد من صواريخ المقاومة كردود فعل على الفعل الإسرائيلي المجرم .
أجواء الحرب انعكست بشكل واضح على كافة مناحي الحياة في الجولان: قلق وحيرة وتساؤلات وخوف ورعب وحذر شديد، عمال البناء ومزارعي البساتين في إسرائيل عاطلين عن العمل منذ أن ابتدأت هذه الحرب، واصحاب الشركات التجارية الصغيرة. المحلات التجارية تعتذر لزبائنها الشراء فقط “بالمزومان” أي الدفع النقدي، ومن كان مديونا لسوء حظه عليه ان يضاعف كل وسائل الإقناع والشكر لديه ليؤجل قليلا دفع المستحقات المترتبة عليه، والمستشفيات الإسرائيلية تعتذر عن استقبال مرضى جدد داخل أروقتها بسبب حالة الطوارئ الأمنية، وحدهم الأطباء يجازفون بحياتهم على الطرقات الى داخل قرية الغجر ومستشفى صفد الذي يبعد حوالي 60 كم عن الجولان . يوم أمس فقط احدى الطبيبات شهدت انفجار صاروخ قربها على الشارع بين مسعدة ومستعمرة اودم في الجولان المحتل، أسفر عن اشتعال حرائق بين الأحراش.
إسرائيل تستخدم قواعدها العسكرية المحاذية للقرى والسكان المدنيين في الجولان المحتل لقصف الجنوب اللبناني، محولة إياهم إلى دروع بشرية لهذه المواقع، وكردة فعل المقاومة بالرد على مصدر النيران التي تحول بيوت الجنوبيين في لبنان وحياتهم إلى خراب ودمار وتشريد وموت محتم. ربما هي لحظات فاصلة بين الموت والحياة هذه الحرب. وتستمر صواريخ المقاومة في السقوط داخل أراضي الجولان المحتل، وتستمر معها مظاهر الخوف والحيرة والأسئلة المتكررة التي يطلقها الأطفال الصغار والكبار منهم، هل نموت بعد انهيار البيت…
المشهد الثاني.. استصغر العدو شأنكم.. فخاب شأنه
علي بحمدون أسير سياسي محرر من لبنان، عاد بعد سنواته العشرة في السجون الإسرائيلية إلى مسقط رأسه في جنوب لبنان، إلى قريته بحمدون في جنوب لبنان، هو بخير يقول لي رفيقي من بيروت، لكن منزله تحول إلى ركام، حملته الحرب إلى بيروت مع زوجته وأولاده، لن يزرع الإسرائيلي سوى المزيد من الحقد والكراهية في صدر وذاكرة أبناءه.
* احمد إسماعيل بيسلم عليكم يتابع رفيقي من بيروت، تدمر منزله، كما تدمرت ضيعته زوطر التي طالما حلم فيها خلال سنوات الاعتقال، عاد ثانية الى بيروت ليكون قريبا من المشردين والنازحين، نعمل معا كخلية نحل كما تعهدنا.
* انور ياسين نتحدث يوميا يقول لي شقيقه حيدر، لكن الحرب منعتنا من اللقاء، اراه يوميا في تقاريره من الجنوب وبيروت على النيو. تي. في، الوالد ما زال مصرا على البقاء في الضيعة “الدلافة” جنوب حاصبيا، لن أغادر المنزل، فليأتوا ان استطاعوا قتلي، انا باق هنا، ولن أكون نازحا ومشردا ثانية، يقول لنا. الوالدة والأشقاء توجهنا جميعا إلى “الرميلة” في مدينة صيدا. وأنور عالق بين رغبة الأب، وإلحاح باقي أفراد العائلة وبين هذه الحرب القاتلة. يوم أمس توجه إلى الضيعة في الدلافة، عله يقنع الوالد بمغادرة المنزل صونا لحياته، لكنه قال: نموت كلنا وتحيا المقاومة. نحن في صيدا، لكنها الحرب تلاحقنا، لو بقينا في الضيعة لكان ارحم أن نموت معا.
* نبيه عواضه رفيقي الذي أتحدث إليه، لا اعلم كم عاما ادخرت والدته فايزة أم نبيل طيلة فترة اعتقاله في السجون الإسرائيلية كي تهديه منزلا خاصا له ولعائلته، قبل أربعة أشهر، استطاع نبيه ” نيرودا” ان يشترى منزلا في الضاحية الجنوبية من بيروت، هو منزل قديم في مبنى متعدد الطوابق، كان الطابق الأخير منه تشغله الأمانة العامة لحزب الله ، استطاع نيرودا من خلق ذاكرة وإحساس وحياة في غرف المنزل خاصة وان ألكسي ونتالي توأمه أحبوا حياتهم بشغف ومرح، ربما حملوه من طبيعة والدهم. لقد حولوا لبنان إلى ركام، كارثة إنسانية تتجسد أمامنا دون ان ندري. ما تشاهدونه على شاشات التلفزيون هو مجرد صور خاليه من إحساس هذا الموت الكبير الذي يجثم على صدورنا.. أنجدتني ام نبيل الوالدة، كانت تملك إحساسا قويا بان كارثة ما ستحل على لبنان، بعد إلحاح منها غادرت منزلي في الضاحية، وحملت أبنائي ألكسي ونتالي، وزوجتي فيتنام إلى حيث تسكن أم نبيل وأختي زويا، في اليوم التالي أصبح كل شئ دمار وخراب وحدها أصوات الذكريات وانين الأبرياء كان يصدح في المكان. كل ما املكه دفن تحت الركام في الضاحية، لم يتبق سوى وجع الذكريات. انك لن تشعر بحجم الكارثة التي نعيشها، لكننا سنعيد الأعمار، ونستعيد حياتنا هذه المرة بدماء الشهداء، وصمود المقاومة في الجنوب، التي تصنع مفصلا مشرفا وصفحة انصع في التاريخ العربي الحديث، والمقاومة وصمودنا سيكون بداية انهيار لأنظمة التخاذل.
نبيه لاجئ أخر من مليون لاجئ لبناني، إلا انه لم يستطع التسليم بالواقع الذي أرادته إسرائيل، لاجئ عاجز هو عالة على غيره، ليكون وسيلة ضغط على المقاومة، فتطوع مع المئات لمساعدة النازحين في المدارس والجوامع والكنائس في بيروت، وتامين ما يلزم لهم من مسببات الحياة والصمود.
لا اعلم كم من الوقت استغرقت محادثتنا الهاتفية، لكن رغبته الشديدة في دخول سوريا الحرب لم تكن غافلة عن باله، هل هناك حشود إسرائيلية على الجبهة السورية، يا ليت يا رفيقي ان تغيث سوريا لبنان التي طالما أحبته واعتبرته وريدها، يا ليتها تخفف عنا هذا الدمار وهذا القتل الذي يطاردنا في بيوتنا وشوارعنا ومساجدنا وكنائسنا ومدارسنا. المقاومة تصنع نصرا ليتها سوريا تكون شريكة فيه بدمها وسلاحها وقرارها وأبنائها. يسود الصمت المطلق اعجز عن الإجابة؟؟
المشهد الثالث.. عروس البحر
رشا ابنة الثانية والعشرين، فلسطينية الجذور وعروبية الانتماء، استقرت في عكا في حضن عائلتها خلال الحرب. حضن حيفا أصبح باردا بعض الشئ، ربما تفضل الموت دافئة كما هي نظراتها، وكما هو جسدها الفلسطيني المسجى بين شاطئ عكا، وحي الحليصة في حيفا، وهناك حيث تحب في أزقة القدس العتيقة. رشا أو حواء الفلسطينية، ابتكرت طقوسها الخاصة لمعايشة الحرب التي تصلها إلى محاذاة منزلها في عكا المطل على البحر، أحلامها ما زالت تبعث دفئا صباحيا رغم صوت صفارات الإنذار الشبه يومي في عكا.. ليل رشا وقت الحرب هو ليلا خاصا جدا، قبل الحرب أحبت ساعات الليل كثيرا لكنها بعد الحرب نسجت قصة عشق خاصة معه، فهو غرفها الصغيرة، التي تحمل صور واسطوانات، وكتابا لم تكتمل أوراقه بعد، وشباكا صغيرا يطل على البحر، تستأذنه في شرب فنجان الشاي على هدير أمواجه وسيجارة يتمية واحدة تأخذها خلسة، وأحاديث مع من تحب من الأصدقاء المحاصرين داخل غرفهم في حيفا وعكا، حواء تنظر إلى بحر عكا بشفقة كبيرة، لكنها تتحدث إليه كلما احتضن صاروخا من لبنان، عن الحب والأمل، عن تلك السيمفونية التي يختزنها صدرها المثقل بالأوجاع والأحلام ، لكنها تفتقد حيفا كثيرا، وتفتقد الجامعة ووظائفها ورفاقها وأوقات السهر والغناء الفلسطيني التي يداوي جراح حيفا منذ جيل وجيل وجيل..
المشهد الرابع.. الو بيروت
أم سليم تعيش الحرب بكل جوارحها، من متجرها الصغير في الطابق الأرضي في الحارة الشرقية من مجدل شمس، تمسح دموعها خلسة خشية أن نراها، إصبعها لا يتوقف عن استبدال المحطات الفضائية، لمتابعة أخبار الحرب والقصف الإسرائيلي، كلما تقترب الغارات الإسرائيلية من البقاع اللبناني، تمسك سماعة الهاتف وتطلب البدالة الدولية لتتحدث مع أحد من أهلها وإخوتها على الحدود اللبنانية السورية. لم تعرف النوم منذ بدء الحرب. كلما غلبها النعاس والتعب قليلا توقظها الأحلام وأصوات القذائف الإسرائيلية على لبنان، فتعاود الكرة من جديد. ليلها تحول نهارها، ونهارها كما هو، دموع سرية تخفيها خشية تأنيب احد أبنائها لها. هم أسوة بباقي أبناء لبنان، الحزن والقلق والبكاء لن يحميهم وإنما يقتلهم حسرة ولوعة عليهم وهذا ما لا يريدونه منك، يقول لها الأبناء بفظاظة، لكنها لا تستطيع مغادرة قلقها وخوفها ودموعها، منذ أربعين عاما لم تشاهدهم سوى مرتين اثنتين فقط. تقول لي: متى تنتهي هذه الحرب؟؟ وتنهمر الدموع من عينيها وتعود إلى كرسيها أمام المحطات الفضائية وعلى مقربة منها جهاز الهاتف الأرضي.
أم سليم ما زالت متمسكة في حلمها أن تعيش ما تبقى من حياتها في كنف منزل أهلها في لبنان، سواء فوق الركام أم تحته…
|