الخيانة والتخوين في الأعراف الجولانية
بقلم : أيمن أبو جبل*
انشغل البعض من أصحاب الشأن الجولاني مؤخرا في طرح وتناول قضية الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وتضاربت الآراء والأفكار في تناول قضية التقصير الرسمي السوري في عدم إيجاد حل يضمن انتزاع حريتهم، وعودتهم سالمين إلى ذويهم، من خلال استغلال كل السبل والفرص والوسائل المتاحة من اجل هذا المرتجى، بما فيها ورقة رفاة الجاسوس الإسرائيلي “إيلي كوهين”. واحتدمت الآراء عبر وسائلنا الإعلامية المحلية، وانتقلت إلى حديث صباحي ومسائي في الحوانيت السياسية، بين مختلف الأقطاب السياسية في الجولان، حتى أنها تعدت ذلك لدرجة كيل الاتهامات بالتخوين والخيانة، وهذه ليست جديدة على الساحة الجولانية، رغم بعض فترات الهدوء التي عايشتها الساحة جرّاء استبدال وتغير المناصب ذات الصلة بالشأن الجولاني داخل الوطن، وتعاملها العقلاني والموضوعي المختلف مع تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية في الجولان، بعيدا عن منطق الوشايات ومرحلة الفاكسات والاتهامات الخطيرة بالخيانة لكل من لم يكن يشكل نسخة من أفكارهم وأرائهم وأسلوب عملهم والية تفكيرهم. ولن استعرض حلقات هذا المسلسل سيء الذكر والصيت، وإنما سأتناول الذهنية التي يعتقد البعض من إخوتنا ورفاق دربنا العمل في منظورها اجتماعيا وسياسيا، ذهنية من الممكن أن تتحول إلى نار تحيل ساحتنا الجولانية الصغيرة والضيقة الى رماد.
إن أعجب العجائب أن تجد هذه الذهنية المريضة من يغذيها من الوطنيين، منهم بقصد ومنهم بغير قصد، فتصيبه الإحداث السياسية بعمى الألوان، خاصة في ظل انتشار الفضائيات والإعلام والشفافية، فهذه العقلية تتهم الآخر بالعمالة والخيانة، دون أن تقف خلف اتهاماتها بشكل واضح وصريح، وإنما تكتفي بخلق نوع من البلبلة الاجتماعية، في محاولة لكسب الشارع الاجتماعي والسياسي ولحرق الجهة المتهمة، وإظهار ذاتها فقط وكأنها الوحيدة الغيورة على كرامة وحرية ومصلحة هذا البلد وهذا الوطن، وسواهم سقط في براثن الاحتلال وأصبح مروّجا ومنفّذاً لمخططاته وبرامج وزارة حربه تارةً، ورومانسيا جاهلا، تحمله عواطفه إلى التهاون والسقوط في لجان مشتركة مع الجانب الإسرائيلي المحتل (وبلغة اسخبارية مع الاستخبارات الإسرائيلية مباشرة) تارة أخرى.
إن الذهنية التي يتعامل بها البعض من الإخوة ورفاق الدرب، على ما يبدو، لا تستطيع التعايش مع التعددية، تعددية الفكر والرأي، ولا تستطيع أن تنظر حولها، وإنما فقط تتطلع في مرآتها، ولا ترى سوى نرجسيتها المفرطة، كأن كل محيطها هو نسيج واحد منها. فتخوّن هذه الجهة او تلك، او هذه الشخصية أو تلك، لمجرد انها طرحت موقفا يختلف عن مرآة أنفسهم. إنهم يختبؤون وراء خطابات وشعارات رنانة ليست في مكانها وزمانها المناسبين، في محاولة منهم لتجييش عواطف وغرائز الناس الصادقة وطنيا، التي ليس لها اهتمامات بما يدور من أحاديث وأفكار وكتابات في الحوانيت ومنابر الإعلام تلك، وهي تغتصب اسمهم واسم المجتمع للتحدث باسمهم، وهي لا تحمل شرعية تمثيلهم وحدها، وذلك من خلال نشر دنئ للإشاعات والاتهامات يمينا ويسارا، معتمدة على تشويه الحقائق، وتهميش وتشويه رموز اجتماعية وطنية لمجرد أنها لا تتفق وتوجهاتها، في محاولة لإلغاء وجود الآخر وحضوره السياسي، ليتعداه الى حالة من التحريض الاجتماعي الشخصي عليه.
لعل علة العلل في مجتمعنا، ان تلك الذهنية ومن يغذيها ممن يعتقدون ان لهم وحدهم حق التقرير بالمصير الجولاني المحلي، خاصة في اتجاه العلاقة مع الوطن ومختلف أجهزته الإدارية والاستخبارية والإعلامية، من خلال ذر الرماد في عيون المسئولين داخل الوطن، مصورين لهم أنفسهم على أنهم ممثلي وجدان وضمير وراي وفكر ومشاعر وعواطف كل الجولانيين، على اختلاف مشاربهم، وان الأصوات الأخرى التي تصدح هنا او هناك ما هي الا اصوات او اقلام مأجورة تخدم المحتلين، والمخطط الأمريكي الذي يستهدف الوطن السوري.
ان المتتبع للشأن الجولاني يجد الكثير من الشواهد على تجاوز هذه الذهنية لأخلاقيات العمل الوطني والاجتماعي والسياسي، بدءً من مرحلة الفاكسات والوشايات المغرضة التي طالت المئات من الوطنين والديمقراطيين في الجولان، ومرورا في التحريض الشخصي على الرموز الوطنية اجتماعيا، في محاولة لمصادرة حقهم السياسي والاجتماعي، وليس انتهاء في حرب البيانات الأخيرة التي استهدفت مؤسسة قاسيون الطبية والمجمع الطبي في الجولان، وطبعا ليس أخرها المنشور الأخير الذي تعرض لشخوص وعاملين في جمعية الجولان للتنمية، والبيان الصادر يوم أمس تحت توقيع “أهالي الجولان المحتل”، الذي يحمل في طياته أكاذيب متعمدة تهدف إلى زج الفعاليات السياسية والاجتماعية في الجولان في دوامة صراع هزيل وطويل، سيترك دون ادنى شك اثارا سلبية مدمرة على صعيد العمل الوطني والاجتماعي في الجولان.
ولكوني كنت قريبا من جوهر القضية التي تناولها البيان المزعوم باسم “أهالي الجولان”، كان لا بد لي من كشف زيف ما حمله البيان من “مسلمات وحقائق” بحسب أصحابه.
قبل ان تزور ابنة الجاسوس الإسرائيلي ايلي كوهين والطاقم الصحفي المرافق بيت احد ذوي الأسرى من ذوي الأحكام العالية، كانت قد زارت معتقل الجلبوع، حيث تحدثت هناك مع عدد من اسري الجولان الذين اجتمعوا بها وتحادثوا معها حول الطرح الذي من اجله قامت بزيارتهم. لا نعلم كيف تمت الزيارة، وماذا دار داخل المعتقل، وكان رد الأسرى وفق التسجيل التلفزيوني للقاء، والذي شاهدته في بيت شقيق احد الأسرى بعد دعوتي إلى منزلهم لهذا الغرض، واقتبس بعضا مما قاله الأسرى: “إن هذا الموضوع الإنساني السياسي المركب والمعقد من مسؤولية الحكومة العربية السورية في دمشق، وهي وحدها المخولة بالتحدث والتفاوض والتقرير بمصير عظام والدك، رغم إننا نتوق إلى الحرية ونريد التحرر لنبني أنفسنا ونعيد جزءًا مما فقدناه من دفء وفرح إلى أمهاتنا وآبائنا، والى جميع الصغار الذين ولدوا وكبروا ونحن هنا نفتقدهم كما يفتقدوننا، لكن هذا الموضوع متروك للحكومة السورية وليس في وسعنا أبدا إن نساعدك في هذا الموضوع. نتفهم الجانب الإنساني من معاناتك، ومطلبك بزيارة قبر والدك. لقد شرحنا لك معاناتنا نحن ومعاناة ذوينا، منذ عشرين عاما نحن هنا، نتوق جدا إلى الحرية ونريدها طبعا، لكننا نترك هذا الأمر لذوينا والى حكومتنا العربية السورية”.
أسير أخر رفض حتى مجرد الاجتماع مع ابنة الجاسوس الإسرائيلي، وعلل ذلك قائلا: “أرفض الاجتماع معها، لان حكومتها تعتقلنا، وتحتل أرضنا، وهي سبب بقاءنا أكثر من عشرين عاما في المعتقل، وبقاء الجولان أربعين عاما تحت الاحتلال”. وتساءل الأسير: “أين كنتم قبل الآن؟ لماذا لم تطالبوا حكومتكم بالإفراج عنا والانسحاب من الجولان؟ إن زوال الاحتلال بالضرورة يعني تحررنا نحن. لسنا بحاجة إلى مساعدتكم ونرفض أي دور لنا في هذا الموضوع، فحكومتنا وجيشنا، ورئيسنا القائد بشار الأسد، هو من يمتلك التقرير بمصيرنا ومصير الجولان وسواه لا احد. ولن اسمح باستغلال صورتي المشتركة معها من اجل الضغط على حكومتي السورية. ولن أكون أنا شخصيا من يضغط على رئيسي ودولتي من اجل عودة جثة والدها، لأن هذا الأمر متروك للحكومة، وهي أدرى بالظرف المناسب الذي تستطيع فيه تحريرنا. وهذ الأمر متروك لها”…
في ذات البيت طلبت ابنة الجاسوس الإسرائيلي إنها ترغب في عرض أفكارها على ذوي الأسرى جميعا، وعلى شخصيات سياسية واجتماعية في الجولان، من اجل مطالبة حكومة إسرائيل وحكومة سوريا العمل على إعادة عظام والدها إلى إسرائيل، والإفراج عن أسرى الجولان وعودتهم إلى ذويهم. وكان الرد صريحا واضحا: إن هذا المطلب مرفوض جملة وتفصيلا، ولن تجدي شخصا واحدا في الجولان مستعد للموافقة على هذا الأمر، لان الموضوع متروك للحكومة السورية، هناك العنوان وليس هنا، ويستحيل على أي جولاني الاشتراك معك أو مع أسرتك أو أي جهة إسرائيلية بأي عمل إعلامي او سياسي مشترك بهذه القضية، لأنه ليست هناك الصلاحية لأحد في معالجة هذا الموضوع سوى الحكومة في دمشق، وقضية أسرانا هي بلا شك مطلبا لنا ولذويهم ولكن لسنا نحن أصحاب القرار بذلك، نحن من هنا في الجولان لسنا شركاء لك في معاناتك أو برنامجك هذا!! وانتهت زيارتها دون متابعة برنامج زياراتها المخطط له إلى ذوي الأسرى،والتقاء ايا من الشخصيات الاجتماعية والسياسية والدينية في الجولان بعد تلقيها جوابا واضحا وحاسما بهذا الشأن.
فمن أين إذا يستقي “أصحاب البيان المذكور” معلوماتهم وحقائقهم؟ وكيف قدموا معلومات كاذبة لأهالي الجولان؟ واعتمدوها مسلمات، كلجان واعتصامات ولقاءات مشتركة!!! إلا إذا كان هناك أهداف مغرضة هم أدرى منا بها!؟ كيف نصبوا أنفسهم قضاة ومحققين يكيلون الاتهامات ويرصدون التحركات السرية ويعلمون بدقائق الأمور في الجولان?! وكيف يعتبر اتفاق عدة أشخاص من لون سياسي واحد شرعية لتمثيل الجولان وأهله والإنابة عنهم في مواقفهم والتحدث باسمهم؟؟؟ وكيف يوهمون الناس أنهم، وفقط هم، العين الساهرة والحريصة، دون سواهم، على مصلحة الوطن الكبير أولا ومصلحة الجولان ثانيا، ومصلحة أسرانا الذين دون أدنى شك سيرفضون كل فكرة تتضمن تعاونا مشتركا مع أي جهة إسرائيلية من اجل الإفراج عنهم، حتى وان كانت عظام الجاسوس كوهين؟ ونحن هنا خارج أسوار المعتقل لا نعلم كيف ولماذا، وماذا حدث بالضبط داخل المعتقل في ذاك الاجتماع، إلا إن اعتمدنا التكهنات! فالأسرى لم يرسلوا بعد أية رسالة أو بيان يشرحون فيه تفاصيل ما حدث معهم.واعتقد إنهم سيرسلون مثل هكذا توضيح قريبا.
تبقى أخيرا نصيحة إلى أصحاب هذه الذهنية “الاستقوائية”: إن طرح الأفكار ليس جريمة، وليس خيانة، وطرح المواقف الشخصية المعلنة إنما يعبر عن حالة وعي وإدراك ومسؤولية لدى صاحبها، والاستخباء والاستقواء وراء الأسماء والتواقيع المستعارة، ليس إلا استخفافا بعقل الجمهور وتسفيه لقدراته، ولم يعد ذلك وسيلة ناجحة في الجولان، لان عصر الترهيب والتخويف والتخوين والتشكيك وتوزيع شهادات حسن السير والسلوك الوطني لم تعد تشكل عاملا من عوامل الانسجام والتفاهم والتنسيق الوطني. ولن أتحدث عن وحدة وطنية لا وجود لها في واقعنا، لأنهم ترفضون الآخر. وان اعتبار الوطنيين والنشطاء والفاعلين والملتزمين على الساحة السياسية والنضالية في الجولان المحتل حكرا على الأسرى فهذا تجني على الواقع وعلى الحقائق ، ولا ننسى أبدا انه كان قبل هذه المرحلة النضالية ” السهلة” أسرى محررين ونشطاء وفاعلين قدموا ضريبة الدم والعطاء في أحلك المراحل النضالية وأشدها قسوة، وبالطبع سيأتي في مراحل قادمة اخرون، فهل سنحصد فيما بعد ما نزرعه اليوم من تجني وتهميش وتجاهل من قبلهم، كما يترجم عمليا على ارض الواقع الآن؟؟؟
إن ساحتنا الجولانية الصغيرة والضيقة ما زالت تتسع للجميع، ولعمل الجميع، كل بأفكاره ومعتقداته وتوجهاته السياسية والاجتماعية، فكفى تلاعبا بعواطف وعقول الناس والاستخفاف بهم، من اجل مصالح ضيقة تخص أصحابها سياسيا واجتماعيا، فهذه الساحة لا تحتمل أن تتفرد بها جهة واحدة، حتى وان كانت مدعومة من مختلف التفرعات الأمنية في الوطن.
• أيمن أبو جبل- أسير سابق، قضى 12 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي بتهمة مقاومة الاحتلال.
6 حزيران 2005
* |