أنك غالية .. لكن الوطن أغلى
عشتار نيوز للاعلام/ شهداء الجولان
أيمن أبو جبل
07/03/2007
لم تكن الجولان تاريخيا سوى محطة من محطات النضال الوطني والإنساني لقهر الظلم وانتزاع الحرية وسمو الإنسان في عالم هو حق شرعي له. وفي مختلف المراحل التاريخية المنصرمة ترك أبناء هذه البقعة الجغرافية من الوطن السوري بصماتهم على مجمل التاريخ الوطني السوري، فكانت مشرقة وضاءة في سماء الوطن.
والنضال النسوي في الجولان لم يكن ظاهرة عابرة في تاريخ المجتمع السوري على مر الأجيال،فقد جسدت المرأة السورية دورها الريادي والقيادي، وفي ميدان الصراع أسوة بالرجل. وفي استحضار سريع للذاكرة الوطنية السورية تتزاحم مشاهد وصور كثيرة من نضال المرأة وأسماء مضيئة أنارت ظلمات القهر والظلم والاحتلال في سبيل حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية عادلة .
فمنذ أسطورة عشتار آلهة الخصب والجمال مرورا بزنوبيا ملكة تدمر صاحبة الحلم الإمبراطوري والتحدي الكبير للرومان. هناك أسماء وشخصيات نسائية جسدت قمما في العطاء والتضحية. كلبيبة هاشم التي أصدرت في عام 1906 مجلة فتاة الشرق وماري عجمي التي أسست أول صحيفة نسائية عرفها المجتمع السوري( صحيفة العروس) في العام 1910. ومرورا بعشرات الشهيدات والمقاومات الماجدات اللواتي شاركن بالثورة السورية لطرد الاستعمار التركي والفرنسي أمثال زكيه هنانو، وفضه احمد حسين زوجة المجاهد صالح العلي ومريم بنت مخول الفحيلي وخديجة بنت صالح مريود وفاطمة الرحال.
وللجولان ضريبته من النضال والتضحية فمن شهيداته الخالدات أمينة إبراهيم وأمينة يوسف الصباغ وبسمة نخلة وتميمة احمد سماره وحميدة أبو صالح وزليخة أيوب وشاهينة عماشة ومحمودة ذياب بريك ومدلله عويدات وورد أبو صالح،وعشرات النسوة اللواتي قضين دفاعا عن الواجب الوطني.حيث بلغ عددهن أكثر من 35 شهيدة أخرهن كانت الشهيدة غالية فرحات التي استشهدت في آذار عام 1987 خلال مواجهات مع القوات الإسرائيلية في قرية بقعاثا والتي سقطت وروت بدمائها ارض الجولان، وغدت رمزا للنضال والتضحية النسوية، خاصة إن استشهادها تزامن مع يوم المرأة العالمي التي احتفلت به القوات والشرطة الإسرائيلية على طريقتها الخاصة في القتل وإطلاق الرصاص على السكان المدنيين في الجولان السوري المحتل.عندما احتفل أهالي قرية بقعاثا مع أبناء شعبهم في طقوس مد قريتهم بمياه الشرب من داخل الأجزاء المحررة من الجولان،بعد إن صادرت السلطات الإسرائيلية معظم مصادر المياه منهم، وليس غريبا أن يتزامن هذا الدعم بيوم المرأة العالمي، وثورة الثامن من آذار التي استلم بها حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم في سوريا اثر انقلاب قام به العسكر .
لقد سجلت المرأة الجولانية دورا وتاريخا بارزا ومشرفا وعنوانا للعزة الوطنية منذ احتلال إسرائيل للجولان في عدوان حزيران عام 1967 فانخرطت المرأة الجولانية في خلايا المقاومة الوطنية السرية وتعرضت للتحقيق والاعتقال من قبل الحاكمية العسكرية والشرطة الإسرائيلية، أمثال زاهية مرعي،وسنية ورسمية كنج أبو صالح وكاميليا وأميرة شكيب أبو جبل وجوليا مرعي الصفدي ومحسنة مرعي ونجاح الصفدي وهالة عويدات وحلوة مصطفى عمران وفريال عارف عزام وسهى منذر وسميحة الصفدي ونجاح الولي واميرة الغوطاني/ابراهيم ،وأملي القضماني ونهدية الصفدي والهام أبو صالح ، ويارة فوزي أبو جبل وعرين حسين خنجر ونهال المقت، إضافة إلى عشرات النسوة اللواتي تم إصدار الحكم عليهن بالغرامات المالية، لمشاركتهن في الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات الوطنية التي كانت تجري في الجولان المحتل حيث تم اعتقال العديد من المناضلات الجولانيات أثناء هذه التظاهرات وقد دام اعتقال بعضهن سنوات عديدة كالأسيرة المحررة أمال مصطفى محمود التي قضت في السجن الإسرائيلي خمسة سنوات.
لقد استطاعت المرأة وإلام الجولانية وبحق أن تجسد إنها المدرسة الوطنية الأولى التي خّرجت مئات المناضلين في مواجهة الاحتلال والتشبث بالأرض والتمسك بالهوية العربية السورية ولم تستطع العادات والتقاليد والقيود الاجتماعية أن تحول دون تطلع المرأة الجولانية إلى حرية الوطن واستقلاله وعزة أبنائه.
غالية فرحات شهيدة الحركة الوطنية السورية في الجولان:
لقد نقش يوم الثامن من آذار من العام 1987 صفحته المضرجة بالدماء فصول روزنامة الكفاح الوطني الجولانية،حين هب طلبة مدارس قرية بقعاثا صبيحة الثامن من آذار للاحتفال بافتتاح مشروع مد القرية بمياه الشرب القادمة من الوطن الأم بمحاذاة خط وقف إطلاق النار ضمن برنامج احتفالات حزب البعث الحاكم في سوريا بأعياد ثورة الثامن من آذار ” ذكرى الثورة ” ويوم المرأة العالمي،الأمر الذي اعتبرته الشرطة الإسرائيلية تحديا سافرا لقرارها بمنع السكان من التجمهر في محاولة لمنع وعرقلة الخطوة السورية في تقديم الدعم لأبناء الجولان وتوفير مياه الشرب لهم ، فأقدمت على محاولة لاعتقال أربعة شبان من أبناء القرية الذين حضنتهم جماهير بقعاثا ومنعت قوات الأمن الإسرائيلي من التعرض إليهم، خلالها أصدر قائد الشرطة الإسرائيلية الإرهابي” يعقوب غانوت” أمرا إلى قواته باقتحام القرية واعتقال المطلوبين فيها وتفريق المتظاهرين بالقوة، فبدأت القوات الإسرائيلية بإطلاق الغاز المسيل للدموع والتعرض للشيوخ والأطفال والنساء ضربا بالعصي والهراوات حينها هاجم أبناء قرية بقعاثا قوات الشرطة الإسرائيلية وطردوها من شوارع القرية بعد أن اصدر قائدها أمرا بإطلاق العيارات النارية على السكان وكانت إحدى رصاصات الحقد قد اخترقت جسد الشهيدة الخالدة غالية فرحات التي كانت تحمل البصل لتقدمه الى مصابي قنابل الغاز المسيل للدموع من على بعد 300 متر من مركز إطلاق النار..
تهاوي جسد شهيدة الحركة الوطنية السورية في الجولان في تمام الساعة الواحدة بعد الظهر عن عمر يناهز الـ53 عاما والى جانبها في الشارع عشرات المصابين من السكان جراء استنشاق الغاز والضرب.سقطت غالية فرحات جراء إصابة طلقة نارية مباشرة في رأسها تاركة ورائها سبعة أولاد. وقد منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي من نقلها بالسرعة اللازمة إلى المستشفى،حتى سائق سيارة الإنقاذ التابعة إلى مركز الطوارئ الطبي في مستعمرة كريات شمونه رفض دخول قرية بقعاثا لإنقاذ الشهيدة إلا بمرافقة قوات الشرطة الإسرائيلية التي رفضت ذلك دون أي مبرر. أربع ساعات مضت وجسد الشهيدة مسجى على الأرض ينزف دما حتى تم نقلها إلى مستشفى رمبام في مدينة حيفا.
ثلاثون ساعة مضت..تحولت بقعاثا والجولان كله إلى ملحمة صمود وتحدي وكبرياء،كان الاستعداد فيها لاحياء عرس وطني كبير تُزف به شهيدة الجولان خالدة في جبين الوطن ووجدانه،من مجدل شمس ومسعدة وعين قنية كانوا شيوخا ونساء وأطفالا يقتحمون حواجز الموت والقهر الإسرائيلي المتمركزة على مداخل ومخارج قرية بقعاثا للمشاركة في الطقوس الجولانية الخاصة بوداع الشهداء طقوسا هي للانتماء والهوية العربية السورية للجولان وأرضا وشعبا وقضية.
يقول سعيد ابن الشهيدة:
كنت معها حين كانت تصارع موتها في مستشفى رمبام في مدينة حيفا، كنت اعلم أن الرصاص الإسرائيلي قاتلا ومميتا، إضافة إلى إن السلطات الإسرائيلية تعاملت بإهمال وقصور واضح في معالجة الشهيدة وتقديم العلاج لها وخاصة سيارات المسماة” انقاذ” لقد قتلت والدتي بدم بارد وفارقت الحياة يوم الاثنين في تاريخ 9/ آذار/1987 وعندما أردت أبلاغ أهلي وأقاربي في الجولان بوفاتها لم أجد وسيلة اتصال مع الجولان بسبب أن السلطات كانت قد قطعت كل وسائل الاتصال مع الجولان وعزلته عن العالم الخارجي، وفقط أعيد الاتصال بعد ان أذاع راديو إسرائيل باللغة العربية خبر استشهاد والدتي في الساعة الثانية عشرة ليلا حيث انتشر الخبر. إن استشهاد والدتي لم يكن وليد الصدفة أو حادث اعتراضي كما تدعي القوات الإسرائيلية وإنما كان واضحا نيه السلطات الإسرائيلية المسبقة بضرب وقمع أي مظاهر وطنية في مناسبة يوم الثامن من آذار ومنع أي تجمهر أمام أهلنا في الوطن الذين يدعمون الجولان بمياه الشرب في قرية بقعاثا . واليوم وفي ذكرى استشهادها احدث ابنتي ” غالية “عن جدتها، وما زلت وافراد أسرتي نشعر أن استشهادها حدث بالأمس القريب، يوم الثامن من آذار هي ذكرى عزيزة وأضيف إليها مجدا أخر باستشهاد شهيدة الجولان غالية فرحات التي ما زالت بيننا”.
لقد شييعت الحركة الوطنية السورية في الجولان شهيدتها الخالدة في تظاهرات وطنية كبرى شارك بها الآلاف من أبناء الجولان وعرب فلسطين ومن مختلف القوى والشخصيات الوطنية يتقدمهم الشاعر الكبير المرحوم توفيق زياد الذي خاطب غالية فرحات قائلا” انك غالية لكن الوطن هو الأغلى”
اثر استشهاد غالية فرحات واصلت السلطات الإسرائيلية سياستها القمعية وتشديد الخناق على أبناء الجولان حيث تجند مدراء المعامل والمصانع والشركات إلى معاقبة أبناء الجولان وفقا لتعليمات الأجهزة السياسية والأمنية الإسرائيلية، فمدير معمل جيبور للنسيح الكائن في مستعمرة كريات شمونة والذي يضم العشرات من الأيدي العاملة الجولانية قام بفصل وطرد كل الذين شاركوا في تشييع جنازة الشهيدة غالية فرحات من عملهم،وكذلك فعل مدير موقع التزلج في جبل الشيح فطرد عشرات العمال من عملهم بسبب مشاركتهم في طقوس تشييع شهيدة الجولان، إضافة إلى فرض الشرطة الإسرائيلية الغرامات المالية ومخالفات السير التي حررتها ضد المزارعين والسائقين في مختلف قرى الجولان.
استشهدت غالية فرحات وما زالت ذكراها تفوح في أرجاء الوطن وذاكرة الأحرار، وقد كرمها الوطن الام في سوريا بإطلاق اسمها على عدة مدارس، في جرمانا ومدينة البعث، إضافة إلى إطلاق اسمها على دورة تخرج الضباط في الكلية الحربية في مدينة حلب اختتمت بتسليمها درع دورة الضباط الحربيين، وأقيمت على شرف استشهادها عدة حفلات تكريمية للجولان وشهداؤه كان أخرها التكريم الذي رعاه الاتحاد النسائي في مدينة القنيطرة ، وفي لبنان الشقيق أطلق اسمها على مدرستين ابتدائيتين تخليدا لذكراها . وقد نظم العديد من الشعراء السوريين والعرب قصائد شعرية لتخليد ذكرى شهيدة الجولان، وتمجيد ملحمة الصمود والتحدي لابناء الجولان منهم شاعر مصر العروبة احمد فؤاد نجم، إضافة إلى إصدار العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع الأسبق كتاب صادر عن مكتبة الأسد القومية حمل عنوان ” غالية فرحات أم الجولان”
وفي الجولان السوري المحتل أطلقت المؤسسات الوطنية اسم الشهيدة على احد مخيماتها الصيفية السنوية التطوعية” مخيم الشهيدة غالية فرحات في العام 1988، إضافة إلى إطلاق الأسرى والمعتقلين العرب السوريين اسم الشهيدة على إحدى منظماتهم الاعتقالية في سجون الاحتلال( منظمة الشهيدة غالية فرحات في معتقل عسقلان في العام 1988) .
د