دروز الساحل: مسارات خروجهم على حزب الزعامة الجنبلاطية بالجبل
محمد أبي سمرا/المدن
جمود الحزب وثقافته وضيق دائرة المقربين من ديوان الزعامة، أخرجا شبانًا كثيرين من الحزب (موقع الأنباء)
في شهادتين موسعتين عن مسارات احتجاجات 17 تشرين الأول 2019 في البيئة الدرزية، وعن العوامل السابقة والباعثة عليها – رواهما وجهان بارزان من منظمي تلك الاحتجاجات في البيئة عينها وتشبيكها مع عمل ناشطين في سائر البيئات والمناطق اللبنانية، ومؤسسا مجموعات سياسية طلابية وشبابية معارضة ومستقلة عن أحزاب الحروب الأهلية والموالية للنظام السوري ووصايته على لبنان منذ التسعينات – يظهر جليًا أن عوامل ثلاثة أساسية كان لها دور بارز في التاسيس للاحتجاجات ومسارها في البيئة الدرزية: الشوف، عاليه، المتن، وبيروت.
سوابق 17 تشرين
ويمكن تلخيص هذه العوامل على النحو التالي:
1- توقف الحرب الأهلية سنة 1990، وخفوت العصبيات الحربية الميليشياوية، وانفتاح المناطق اللبنانية وزوال الحواجز بينها. وهذا أدى إلى تفتح شبان دروز من الفئات الوسطى غالبًا، أثناء حياتهم الطلابية في جامعات بيروتية خاصة غالبًا، تتصدرها الأميركية. وكان تفتحهم حصيلة عوامل عدة: اختلاطهم بطلاب من بيئات طائفية أخرى. تشاركهم وإياهم في تأسيس مجموعات سياسية يسارية مستقلة. ابتعادهم من بيئتهم الأهلية المتجانسة ومن إرث الحرب، ونفورهم منه ومنها.
2- خمول نشاط أحزاب الحرب وتراجعه في البيئة الدرزية، بعد توقفها. وقد يكون ولاء تلك الأحزاب لوصاية النظام السوري، وعدم تلاؤم عمل منظماتها مع تطلعات تلك الفئة من الشبان في زمن السلم، وعدم تجديدها نشاطها، من العوامل التي حملت جموعًا من الشبان الدروز على عدم الانتساب إليها. وهناك جموع درزية أخرى أكبر عمرًا من منظمي احتجاجات تشرين الدروز البارزين، كانوا قد خرجوا منذ أواسط التسعينات من أحزاب ثلاثة: التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، الشيوعي اللبناني الذي شهد انشقاقات كثيرة ما بعد الحرب، وخرج منه أمينه العام (جورج حاوي) وأحد أعضاء مكتبه السياسي (نديم عبد الصمد الدرزي)، وسواهما من قادته المحازبين. وأخيرًا الحزب السوري القومي، الأقل حضورًا ونشاطًا من الحزبين الأولين في البيئة الدرزية وسواها.
3- انتقال فئات درزية واسعة من بلدات الشوف وعاليه وقراهما الجبلية إلى الإقامة والسكن والعمل في ساحل هاتين المنطقتين (في الشويفات خصوصًا) وفي بيروت. وأدى الانتقال هذا إلى ضعف اللحمات والروابط العائلية والقرابية التي تشد الأهل إلى مجتمعهم التقليدي المحلي في بلداتهم وقراهم، وإلى ولائهم للزعيم التقليدي وحزبه وعصبيته. أي الزعامة الجنبلاطية التاريخية وحزبها التقدمي الاشتراكي.
وتظهر هذه العوامل الثلاثة واضحة وجلية في سيرة المنظمين البارزين ومسارهما:
– أحدهما والده من زرعون في المتن الشمالي، لكن ابنه وُلد سنة 1979 في صيدا. وسنة 1984 انتقلت عائلته للإقامة في خلدة. وسنة 2006 سافر إلى بريطانيا لمتابعة دراسته، بعد تخرجه من الجامعة الأميركية في بيروت، حيث كان من مؤسسي مجموعات يسارية طلابية كثيرة مستقلة. وسنة 2013 ترشح إلى الانتخابات النيابية عن المقعد الدرزي في عاليه، لكن الانتخابات ظلت تؤجل حتى سنة 2018، فترشح أيضًا في الدائرة الانتخابية نفسها، وفشل في الوصول إلى البرلمان. وهو مرشح كذلك لانتخابات أيار 2022. وطوال تلك السنوات انخرط في نشاطات سياسية وبيئية ومدنية في بيروت وعاليه والشوف. أما والده فصاحب شركة توزيع محروقات، وكان عضوًا في الحزب السوري القومي، واستقال منه سنة 1988. وعائلة والده كانت موالية كلها لهذا الحزب، لكن اليوم (2022) لم يبق منها شخص واحد على ولائه ذاك. وهو وحده الناشط السياسي اليساري المستقل فيها.
– سيرة المنظم الآخر ومساره لا يختلفان كثيرًا عن الأول. فهو من عائلة درزية كبيرة ونافذة في بلدة شوفية جبلية، وولد فيها سنة 1981. ودرس المعلوماتية في جامعة سيدة اللويزة على ساحل كسروان المسيحي قرب جونية. ودرس أيضًا في كلية الآداب – الجامعة اللبنانية في بيروت، ويعمل اليوم (2022) في شركة أبحاث ودراسات أسسها مع شريك له في بيروت، لتنظيم مبادرات اقتصادية وتطويرها. وقال في شهادته أنه “من بيت سياسي، وأهله محازبون شيوعيون”. لكنه استقال من الحزب الشيوعي سنة 2009. ومنذ ذلك الحين انخرط في تأسيس مجموعات سياسية يسارية مستقلة كثيرة، آخرها منظمة يسميها “قاعدية” ونشأت عن حملة الانتخابات النيابية سنة 2018، على أسس وخيارات “ديمقراطية علمانية”. ورأى أن الحملة يجب ألا تقتصر على الشوف وعاليه، لأن ذلك يعني أنها “موجهة ضد القوى المسيطرة هناك فحسب، بينما المطلوب أن تكون على صعيد وطني، وضد المنظومة الحاكمة في لبنان كله، وليس ضد زعامة واحدة”. لذا لم تتفق المجموعات المشاركة في الحملة على الأرجح، وتفرقت في خوضها انتخابات 2018، وفشلت في إيصال أي من مرشحيها إلى البرلمان.
وتتشابه في شهادتي هذين المنظمين البارزين مسارات أمثالهما وتتقاطع في مناسبات ومحطات كثيرة. منها مشاركتهم في التحركات والنشاطات السياسية المختلطة طائفيًا، تلك التي سبقت وأعقبت ما سمي “مصالحة الجبل” سنة 2000 بمبادرة البطريرك الماروني نصرالله صفير، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط. ونجم عن “المصالحة” تلك ميل وليد جنبلاط المضمر وغير المعلن إلى مشاركة شطر من منظمات حزبه الشبابية والطلابية في التحركات الاحتجاجية المسماة “سيادية” ضد “الوجود السوري”، إلى جانب الأحزاب والتيارات الشبابية والطلابية المسيحية: الكتائب، القوات اللبنانية، والتيار العوني.
وتبرز ملامح مشتركة للناشطين الدروز في تلك التحركات: ولادتهم في خضم حروب الثمانينات الأهلية، تحدّرهم من بيئات أهلية وحزبية يسارية (التقدمي الاشتراكي، الشيوعي اللبناني). وتفتح وعيهم طلابًا ثانويين وجامعيين في بيروت. وفي خضم الاحتجاجات “السيادية”، “تمرّد” اليساريون المستقلون المشاركون فيها على أحزاب الحرب الأهلية وميليشياتها، وأجهزتها، بعدما صورتها لهم أهواؤهم الطلابية، والشبابية “سيئة السمعة”، حسب شهادة أحد المنظمين. وتدل أسماء المجموعات “المتمردة” تلك على يساريتها المستقلة: “بلا حدود”، “بابلو نيرودا” و”طانيوس شاهين” وسواها من أمثالها.
وفي سنة 2004، نضجت لدى مجموعات اليساريين المستقلين (مسيحيون وشيعة ودروز) فكرة إنشاء حزب سياسي، هو “اليسار الديمقراطي” الذي كان معظم مؤسسيه “مثقفين يساريين” وناشطيه من “المتردين” على الحزب الشيوعي اللبناني. وتزامن تأسيس ذاك الحزب مع جملة من الحوداث البارزة: التمديد لعهد إميل لحود الرئاسي الموالي للنظام السوري. نشأة ما يسمى “تجمع (فندق) البريستول المناوئ للتمديد، ولنظام الوصاية السورية على لبنان. اغتيال رفيق الحريري، وانتفاضة 14 آذار 2005. لكن سرعان ما دبت خلافات في “اليسار الديمقراطي” أثناء حرب تموز 2006، فتفكك إلى مجموعات مختلفة في العام 2009، وتوزع ناشطوه على المشاركة في حملات منظمات المجتمع المدني، وصولاً إلى مشاركتهم في انتفاضة 17 تشرين 2019.
وإلى مسارات هؤلاء اليساريين ومجموعاتهم الكثيرة المتناسلة ما بين أواسط التسعينات والعام 2018، هناك جيل شاب درزي أصغر منهم عمرًا، شارك في انتفاضة 17 تشرين وتظاهراتها ومجموعاتها الجديدة ومخيماتها في البيئة الدرزية. وهؤلاء كان قد خفت ولاؤهم وولاء أهلهم وعائلاتهم للأحزاب، بل انطفأ، وخصوصًا للحزب التقدمي الاشتراكي الأقوى والأرسخ تاريخيًا في أزمنة الحروب الأهلية وقبلها. ويليه الحزب الشيوعي اللبناني الذي تفكك وتشظّى. ويأتي أخيرًا في هذا السياق الحزب السوري القومي.
دروز الحزب والزعيم
روى أحد المنظميَن البارزين أن المجموعات الدرزية المشاركة في احتجاجات تشرين، كان ناشطوها في معظمهم “متمردين” على الزعامة الجنبلاطية وحزبها. ومنهم كانوا مسؤولين في الحزب التقدمي الاشتراكي، فاستقالوا منه، وأعمارهم لا تتجاوز 55 سنة. ومنهم شبان لم يشاركوا في القتال أثناء الحرب، وعملوا في الحملات والماكينات الانتخابية الحزبية الجنبلاطية. وباعثهم على الخروج من الحزب: جمودُه وانكماش تأطيره التنظيمي والسياسي. ضيق دائرة المقربين من “ديوان” الزعامة في قصرها بالمختارة الجبلية أو الجردية. وانغلاق الأطر الحزبية وعدم تلبيتها طموحات ارتقاء أعضائها وتفتحهم الاجتماعيين. والثقافة الحزبية الاشتراكية تكاد تقتصر على قراءة كتاب أو اثنين عن كمال جنبلاط، ولا يرتقي المحازب ويتولى مسؤولية تنظيمية في منظمات الحزب، إلا حسب ولائه للقيادة والزعيم. ويمكث المسؤولون في مناصبهم، ما دام لا انتخابات في منظمات الحزب وهيئاته.
وبعد سنة 2005 والتسويات الحكومية التي شارك فيها جنبلاط، وبدايات انكماش الوضع الاقتصادي، وضيق تحصيل الزعامة الجنبلاطية وظائف وخدمات من القطاع العام الحكومي، تراجعَ الولاءُ للحزب وزعامته في البيئة الدرزية. وعقب انتخابات 2009 النيابية تضاءل دور وليد جنبلاط في الانتخابات الرئاسية، فانعكس ذلك تراجعًا جديدًا في الولاء للحزب والزعامة، وصولاً إلى تدني نسبة المشاركة الدرزية في انتخابات 2018 النيابية. وعشية انتفاضة 17 تشرين 2019، كان قد كثر عدد الخارجين من صفوف الحزب. فالمتعلمون وحملة الشهادات الجامعية العليا، لم يعد الحزب يلبّي طموحاتهم الشخصية والذهنية، وندر حضورهم فيه.
دروز الساحل والجبل
ترافقت هذه العوامل مع إقبال فئات واسعة من الشبان الدروز على العمل في بيروت والإقامة فيها أو في ساحل عاليه: الشويفات التي صارت تجمعًا سكنيًا كبيرًا شبه مديني، دير قوبل، بشامون، عرمون، خلدة، ودوحة الحص. وغيّر العمل والإقامة الجديدان في هذه المناطق وامتدادًا إلى بيروت معايير العلاقات الاجتماعية وأحكتمها وشبكاتها في البيئة الدرزي، ساحلًا وجبلًا: صداقات طائفية، إقبال على زواج مختلط طائفيًا، تغيير في الذهنيات، تفتح على آفاق اجتماعية وسياسية جديدة، والتواصل مع بيئات غير درزية في لبنان وخارجه. وهذا كله نجم عنه ابتعاد عن بؤر المجتمع الأهلي التقليدي، وخروج من السيطرة الحزبية وولاءاتها، ومن العباءة الاجتماعية والسياسية للزعامة الجنبلاطية في بلدات الجبل وقراه، حيث تطالعك يوميًا أعلام الحزب، صور شهدائه، وصور كمال ووليد جنبلاط.
وإذا كانت هذه الظاهرة قد بدأت في سنوات الحرب الأخيرة، فإنها اتسعت بقوة في التسعينات، وبلغت أوجها في العشرية الأولى من الألفية الثالثة. فمن أخذ يعمل في بيروت، استأجر أو اشترى بيتًا لسكنه قريبًا من بيروت، ثم اشترى سيارة خاصة. وعشية انتفاضة 17 تشرين كان قد صار عدد ضخم من الدروز يقيمون في الساحل. وهناك من يقول إن ربع الدروز يقيمون في الشويفات التي شهدت أوسع تجمعات المحتجين وأكثرها حيوية ودوامًا على الساحل الدرزي في انتفاضة تشرين. لكن الانهيار الاقتصادي والضائقة المعيشية منذ 2019، حملت كثيرة من سكان الساحل الدروز على العودة إلى أهلهم وبلداتهم وقراهم في الجبل.
وهذا بعدما كان إقبال فئات واسعة من الدروز على التعليم العالي، عُملها وإقامتها في الساحل في بيروت، قد ساهم- لا سيما في الفئات العمرية ما دون الخمسين سنة- في تفكك روابطهم العائلية الموسعة وعلاقاتهم بالبلدات والقرى الجبلية. فالفئات العمرية هذه، والمنتمية إلى الفئات الوسطى، حتى المقيمة منها في الجبل، كان محور دورة حياتها الفعلية، من تعليم وتسوق وتعارف وصداقات وعمل وطبابة وترفيه، في الساحل وبيروت. أما بيوت هؤلاء في بلداتهم وقراهم الجبلية فتحوّلت إلى ما يشبه فنادق للنوم. ومن كان قادرًا منهم على الانتقال من الجبل إلى الساحل، لم يفوّت فرصة انتقاله الدائم. وهذا أدى إلى تدني نسبة الإنجاب في المجتمع الدرزي عمومًا، جعل بلدات الجبل الدرزية وقراه، ضئيلة السكان.