الجنسية الإسرائيلية والمجتمع المأزوم
عشتار نيوز للاعلام/ قضايا جولانية/ قضايا المجتمع
بقلم : يوسف الصفدي
قد يبدو هذا العنوان مستفزاً للبعض، لكنه في الحقيقة التوصيف الأخف الذي يجنبنا الذهاب الى وصف أشد وقعاً. وهو وصف لا يُعنى بالحكم على المجتمع بقدر ما يُعنى بإسماع نداء استغاثة، فالأذى يلحق بالجميع، وسيلحق بجيل كامل سيعاني من الأضرار الدائمة التي نخلفها له.
والخلل في الرأس أكثر منه في الجسد، فالناس عموماً من الصعب أن نطلق بشأنهم وصفاً جامعاً مهما بدا لنا ذلك مقارباً للواقع.
مجتمعنا مأزوم وبلا قيادة. هذه حقيقة لا ينكرها إلا المكابرون.
ولم يعد لدينا مرجعاً حقيقياً قادراً على تشكيل مثال أو مركزٍ للقرار، سواءً كان هذا المرجع مؤسسة أو شخصية او اي جهة او مجموعة.
مؤسسات عديدة انقرضت وأصبحت من الماضي، وشخصيات كثيرة هامة غيبها الموت.. والخلوة لم تعد الخلوة التي عرفناها سابقاً، والتي كانت المرجع وصمام الأمان في كل الأزمات.
لذلك فإن تفاعلنا مع الاحداث أصبح محكوماً بمبادرات منفردة، وغير مؤسس على حالة مستقرة وثابتة من الادارة المركزية (او اللا مركزية) والتي ممكن ان تعتبر شكلاً من اشكال القيادة التي تصنع القرار.
لقد ساهم العام 2011 بإبراز جانب من أزماتنا بأوضح أشكالها، ما أدى الى اعتبار الحدث السوري سبباً لكل المصائب، مع أن الخلافات والأزمات كانت قد بدأت قبل ذلك بعقدين على الأقل، تراكمت خلالها أحقاد وضغائن لا مبرر حقيقي لمعظمها. ولا بد لمجتمع يحمل كل هذه الضغائن أن يكون سهل القياد وعرضة للتلاعب بأفراده، وأرضاً خصبةً للعداوات المجانية.
وهو مجتمع مهزوم سلفاً وإن تبدّت له هزائمه انتصارات، ولن يكون قادراً على حماية نفسه من اي اعتداء قبل أن يصفي خلافاته الداخلية، ويمارس الحوار الشفاف طريقاً للبناء والتراكم، ويعتمد إدارة واضحة وثابتة لأزماته.
في خلفية هذا المشهد، وبهدوء تام، تنضج مصيبة جارفة تهدد الجميع؛ الجنسية الاسرائيلية تكاد تصبح أمام أعيننا أمراً واقعاً دون أن يحرك أحد ساكناً حتى هذه اللحظة.
لقد اصبحت حجة الفيزا الى دبي سبباً كافياً لرمي تاريخ كامل من التضحيات والفعل النضالي الصادق، ليس على مستوى أفراد فحسب، بل أن مجتمعاً كاملاً تجندت كل جماهيره بكبيره وصغيره وشيخه وطفله على مدى سنوات طويلة لمجابهة دولة طاغية بجيشها وشرطتها وسجونها وبكل أذرع هذا الأخطبوط المتوحش، والآن لا يتردد هؤلاء السوّاح الذين يزعجهم انتظار الفيزا لمدة اسبوع، لا يترددون في سبيل ذلك بإحراق هذا التاريخ الذي صنعه أهلهم، والذي تكلل بنصر مؤكد على دولة هزمت كل الجيوش العربية، ولا يترددون بالقفز فوق أعمار هُدرت شهادةً او أسراً، وأعمارٍ كُرست دفاعاً عن الذات والهوية وعن حياة ومستقبل أبنائنا الذي تتهدده تبعات التجنيس.
وفي سبيل تأشيرة السفر لا يتردد هؤلاء السوّاح في منح أطفالنا، (وأطفالهم أيضاً)، تأشيرة للدخول في الجيش الاسرائيلي.. والاحتمال الأخطر، تأشيرة للموت في سبيل هذا الجيش والعودة في تابوت يلفه العلم الإسرائيلي. ومهما بدا هذا الكلام قاسياً وصادماً فجميعنا يعلم أنها الحقيقة. فالجيش ليس مكاناً لممارسة هواية الرماية والتفاخر بحمل البندقية على الكتف، كما يعطي البعض عذراً لأبنائهم الذين تجندوا بالفعل – في الجيش يتعلمون شيئاً واحداً: إما ان تكون قاتلاً أو مقتولاً، ولنا العبرة في 400 شاب من قرى الجليل ضحايا جريمة التجنيد، وغيرهم ممن قتلوا في صفوف الشرطة وغيرها من أفرع الأمن الاسرائيلية…
وليس أقل بشاعة من هذا أن نحوّل أبناءنا إلى قتلة أيضاً، وضحاياهم في هذا الحال سيكونون دائماً من أهلنا وأخوتنا وأبنائنا على اي جبهة للعدوان يخوضها هذا الجيش.
سبب آخر أكثر “جذريةً وإقناعاً” يتبناه المثقفون والدكاترة و”أصحاب الرأي” من المجنّسين الجدد.. إنه التبرؤ من الانتماء الى أمة فاشلة متخلفة يحكمها القمع والاستبداد.. ويا لفخامة الانتماء الجديد الذي يتبنوه، في الوقت الذي تتزايد فيه كل يوم الأصوات التي ترتفع في كل العالم دولاً وكياناتٍ وأفراد لإدانة جرائم هذه الدولة، والتي أصبحت رسمياً، بشهادة منظمات حقوق الانسان في العالم، تُعرّف كنظام أبارتهايد، يمارس التطهير العرقي والفصل العنصري والإبادة الجماعية. وهي الدولة التي يتفاخر رئيس حكومتها بالقول: “لقد قتلت الكثير من العرب، ولا مشكلة في ذلك”.
إنها الاحتلال الأخير في هذا العالم، ومسرح الجرائم والدمار والاغتيالات وهدم المنازل وطرد السكان الأصليين، وفي مشهد همجي أخير أصبحت حتى الجنازات هدفاً لعنصريتها.
وفوق كل ذلك فحتى لو أردتم التبرؤ من عروبتكم “الملعونة” فأنتم تعلمون حق العلم أنكم ستظلون في نظرهم “عرباً قذرين” ((بترجمتها العبرية))، وستبقون تسمعون بآذانكم على الدوام صراخ “الموت للعرب” والذي يقصد به نحن وأنتم على السواء.
على هذا المفترق الخطير لا بد لنا أن نخطو خطوة أخرى لنحاول الاجابة على السؤال – لماذا يغيب الفعل؟
للجيل السابق أو ما يسمى “الرعيل الأول” كانت آلياته غير القابلة للشك والزعزعة وإعادة التفكير. وقد أثبتت أنها ناجعة وأدت رسالتها على أكمل وجه، رغم كل ما رافقها من أخطاء، وبما يتناسب مع ذهنية المرحلة وأفكارها السائدة.
الجيل الأوسط والحالي لا زال يتخبط في مأزق عميق..
إنه جيل “التحضر” و “الثقافة” و “التحديث”، وهو “يأبى” أن يعمل وفق آليات الجيل السابق. وهو يرغب في تحديث آليات العمل التي سوف يتبناها. هاجس الحداثة هذا يجعله يرى الكوارث تمر أمام ناظريه ويقف ساكناً دون حراك. فاستعمال الآليات القديمة، وإن كنا لا نستطيع الجزم أنها تشعره بالإهانة، لكنه أثبت عملياً أنه يفضل الحياد والسكون وتلقي الصفعة تلو الأخرى على أن يتبناها. إنها وللحق تنتمي الى جيل سابق، جيل كان فخوراً بتبنيها دون تلكؤ أو تردد، وهو ما أثمر إنجازاً هائلاً كان مفخرة لأصحابه، ومحط اعجاب وتقدير على مستويات تتعدى المنطقة والاقليم لتصل الى ابعد من ذلك. وهي آليات تبنتها تاريخياً حركات تقدمية عريقة من جنوب افريقيا وحتى الهند.
رفْض الجيل الاوسط والحالي للسابق أراحه من قيود الالتزام بما لا يلائمه، لكنه أوقعه في الفراغ. فروّاد التحديث لم يجدوا بعد آليات بديلة، وآليات النضال الاجتماعي والسياسي “القديمة” تأبى أن نمارسها على استحياء. ولكي تعطيك ما ترغب من نتائج عليك أن تمارسها مرفوع الرأس ثابت القلب، مؤمناً بها دون تردد. نصف الثقة ونصف الأداء ونصف الإيمان، لا يعطي حتى نصف نتيجة، انه يرتد ليعطي نتائج معاكسة مضاعفة تزيد من توريط المجتمع بما يعمل على الخلاص منه.
للخروج من هذا المأزق لم يعد لدينا متسع كبير من الوقت، ليصحوا المخلصون في هذا المجتمع ويبدأوا بالعمل على استعادة الفضاء العام عبر إعادة الاعتبار لخط وطني حقيقي جامع يستجيب للحاجات الانسانية لأجيالنا القادمة، واستعادة منظومة كاملة من القيم والمضامين التي أصابها الكثير من التشويه، والعناية أكثر بشكل هذا الطريق المفترض ومضمونه، وبما يقدمه كنموذج نفخر بالانتماء اليه وأكثر تعبيراً عما يرغب الأفراد بأن يكونوا عليه وأن يكونوا جزءاً فاعلاً فيه، لا أن يسعوا الى التبرؤ منه والتفتيش عن انتماءات أكثر “جاذبية”، وأن يكون حضناً يتسع للجميع دون أن يفرض عليهم أن يكونوا نُسخاً متشابهة.
إنه لا شك تحدٍّ كبير، وهي مهمة طويلة الأمد وبحاجة الى أفكار مبدعة وخطوات عملية بالتوقيت والجرعات المناسبة، ولغة جديدة قادرة على مخاطبة الشباب وغير الشباب.
أما في موضوع التجنيس فالأمر لا يحتمل الانتظار، ولا زالت الأصوات التي ترتفع للتحذير من هذا الخطر الداهم، على أهميتها القصوى، أقل من أن تستطيع أن تتحول الى تيار يستطيع التأثير. ولن يصبح الأمر في التداول العام القادر على الفعل إلا إذا تعالت عشرات ومئات الأصوات، لتوقف هذا المدّ الجديد من المتهاونين بحياة ومستقبل أبنائنا، وتثبت لهم انهم يبقون الأقلية مهما توهموا عكس ذلك.
صمتنا عبث بمستقبل أبنائنا، وإرث لعين ستحاسبنا عليه الأجيال القادمة.. فهل نصحو قبل أن يصبح الوقت متأخراً.