مواطن من صنف ميّت
צילום: تومِر أبلباوم
تامر نفّار/ هآرتس
مغني راب فلسطيني
بينما كنتُ أتصفّح الفيسبوك، رأيتُ صورة شخص يرفع لافتة “مواطن من صنف ميت”. لم أمعن النظر لأرى مَن رفع اللافتة، مَن نشر الصورة، وأيّ وصف (caption) أُضيف لها. حفظتُ الصورة، وبدأتُ أرسلها إلى الأصدقاء عبر واتساب. ثمة في هذه اللافتة ما سدّد إليّ لكمة في بطني، لا أدري إن كان السبب كوني مواطنًا من صنف ميّت، أم لأنني لم أفكّر في هذا التلاعب بالكلمات من قبل.
ما أسهل إطلاق النار حين يبدو الشخص الذي في وجه حامل السلاح عربيًّا، وما أصعب الاستيقاظ كلّ صباح والتفكير في شيء غير القتل! ما أصعب التأليف، الكتابة، والغناء تحت هذه السماء القاتمة (منذ مدّة لم يعُد الأمر مجرّد سحابة سوداء، أمّا السماء الزرقاء فنسيناها). كم هو محبط أن تكون فنّانًا غير حُرّ، أن تفكّر في أنك عثرت على حريّة بحجم ورقة وقلم، أو شاشة حاسوب نقّال، أو بحجم منصّة تقفز عليها وتشعر بالحريّة. ولكن كخلاصة، بعد 23 عامًا من مسيرة موسيقيّة تناضل من أجل الحريّة، تكتشف أنّ المواضيع هي التي اختارتنا ولسنا نحن مَن اختارها. فنحن نزخرف، نؤلّف، نجلب استعارةً من هنا وحكايةً رمزيّةً من هناك، لكنّ كل شيء يبقى ضمن ملعب هذا الموت.
كم أرغب الآن في أن أكتب عن سامي، ابن عمّي، الذي في مثل سنّي، زميلي في الصفّ، وشريكي في كلّ الحماقات التي قُمنا بها معًا حين كنّا صغيرَين! لديّ رغبة شديدة في إخبار قصص عن غيرتي منه لأنه كان الشابّ الأكثر وسامةً في الحيّ وكانت الفتيات دائمًا يُرغبنه، وكنتُ أنا سائقه الخاصّ للمواعيد الغراميّة. كم يضحكني أنه اشترى سيارة “فان” وكان السائق في العروض والحفلات التطوعيّة التي أقمناها بمناسبة يوم النكبة، يوم الأرض، التظاهرات ضدّ هدم البيوت، ضدّ الحصار على غزّة (ألم نُولَد لنضحّي؟ فلمَ لا نضحّي بمالنا أيضًا؟ إنها النكبة يا حبيبي، لا احتفال بعيد الاستقلال بتكلفة مئات آلاف الشواقل لكلّ حفلة). في كلّ عرض بمناسبة النكبة، لا يظهر اسم الفنّان ضمن الميزانيّة المتواضعة، لأنه متطوّع من أجل القضيّة. لكنّ السائق الذي يوصلنا يحصل على ألفٍ أو اثنَين. لكنّ المال يذهب ويأتي، والذكريات تذهب وتأتي، وسامي وضحايا القتل الـ 70 الآخرون منذ بداية العام ذهبوا وانتهى أمرُهم.
في مقطع الفيديو المثير للقشعريرة الذي صُوّر قرب جان نير في جلبوع، حاول ديار عمري الفرار من الموت، جلس في سيّارته رافضًا الخروج منها، ثمّ رأى مُسدَّسًا ونهض للتصدّي له، حتى إنه أسقطه ووجّه له ظهره، لكنّ ذلك كلّه لم يكن كافيًا، فقد اختطفه الموت بلا رجعة.
الاسم “عُمري” بحدّ ذاته مثير للقشعريرة، فمعناه “حياتي”. حين يموت شخصٌ نقول “أعطاك عُمره”؛ والآن “عُمري أعطاك عُمره”. لكنّ هذه الهبة ليست قرض إسكان لطيلة الحياة، بل قرض قصير الأمد جدّا، فقد أعطى عُمره للقتيل القادم.
والموت قبيح جدًّا، متعجرف، ولا يشعر بأيّ ندم. كيف يقف مُطلق النار منتصبًا، رجُلًا، كبطل فيلم أكشن من التسعينات. لم يكن ينقصه سوى ترديد بعض العبارات التي يقولها أبطال هذه الأفلام. كان واقفًا كأنه محترف مركِّز على “الهدف” الذي يشه في قسمات وجهه ولهجته ما عُلّق له على هدف الرماية أو ما زُرع في ذهنه، بانج بانج بانج بانج بانج و.. أطلِق النار، قطِّعه وليكُن “تريلر” الميليشيا القوميّة الخاصّة ببن غفير.
النظر إلى الآخَر على أنه مُتساوٍ يبدأ في النشيد الوطنيّ، فهناك جذر المسألة، والعلاج يجب أن يبدأ منه. أمّا باقي الأعراض كالعنف الجامح، العمليّات، البيبي، البن غفير، فكلّها ستزول بعد هذا التصحيح التاريخي.
ما الذي سيُكتَب في التعليقات على كلّ منشور وتقرير؟ “إستحقّ ذلك”، “دفاع عن النفس″، “كان خائفًا على حياته”، أو في أفضل الأحوال: “يعاني من مرض نفسيّ”. وقد يدين البعض ذلك، لكن مَن يستوعب أنها متلازمة، مَن يتحمّل المسؤولية ويقول: “منذ قيام الدولة لا نرى العرب متساوين”.
وعي اليمين هنا ينسجم مع لاوعي اليسار الصهيوني، وكلاهما يدفعهما الشعور بالفخر، التفوُّق، و”الخوف على الحياة”. أمّا نحن، الفلسطينيين، فحتّى حقّنا في الخوف على حياتنا مسلوب منّا. رأى عربيًّا، لذا أوتوماتيكيًا دخل في حالة تأهُّب لأنّ العرب قتلة، فلمَ المخاطرة؟ رغم أنّ المعادلة نفسها يمكن أن تبرّر الإعدام الميدانيّ لركّاب سيّارة إسرائيلية دخلت خطأً إلى رام الله. ألا يجوز الخوف من أن يكون مُستعرِبًا؟ (لا بدّ أنكم شاهدتم مسلسل “فوضى” على نتفليكس، وفي الأراضي المحتلّة شاهده كلّ ولد وبنت من نافذة المنزل).
النظر إلى الآخَر على أنه مُتساوٍ يبدأ في النشيد الوطنيّ، فهناك جذر المسألة، والعلاج يجب أن يبدأ منه. أمّا باقي الأعراض كالعنف الجامح، العمليّات، البيبي، البن غفير، فكلّها ستزول بعد هذا التصحيح التاريخي.
النكبة باقية، الأعراض تذهب وتعود، سامي وديار ذهبا، ويبدو أننا سنذهب خلفهما، أمس قبل الغد. وفي هذه الأثناء، نلقى مصرعنا جرّاء سلاح عربيّ غير شرعيّ وسلاح يهوديّ شرعيّ، وأنا مواطن درجة ميّتة. والعربي الجيّد هو عربيّ حامل قلم، لذا أكتُب وأغنّي. ولمَ التطوّع فقط في عروض النكبة؟ سأتطوّع أيضًا في الجانب اليهوديّ، سأغنّي هذه الأغنيّة مجّانًا، تفضَّلوا يا عُمري:
طالما في القلب تكمُن
نفسُ كلّ المواطنين تتوق
وللأمام نحو الشرق
عين تنظر إلى المساواة
ضميرنا لم يضِع بعد
كي نسأل كم من الألم سنُحدث بسبب استقلالنا
نعتذر لأننا شعب احتلّ
أرضًا تحتاج إلى اسم وعَلَم جديدَين.
الكاتب فنّان ومغنّي راب