شكيب أبو جبل 12 عاماً أسيراً في سجون الاحتلال الإسرائيلي
بقلم عدنان جابر/ اسير فلسطيني مُبعد الى خارج الارض المحتلة
عندما التقيت المناضل الكبير الأسير السابق شكيب أبو جبل (أبو يوسف) في بيته في جرمانا قال لي إن أكثر شيء «يسم البدن» الآن إنما هو: «سماع الأخبار.. والكذب»!!
لا يعني كلام هذا الرجل الثمانيني، الذي ناضل كثيراً وطويلاً، ورأى الكثير في حياته، وخبر الكثير، وعانى الكثير، لا يعني كلامه أن لديه عزوفاً عن السياسة أو ليس لديه اهتمام بقضايا الأمة، المسألة غير ذلك، وعليك أن تعرف شكيب أبو جبل حتى تعرف جبلاً من النضال، تاريخاً حافلاً بالعطاء والفخار، وحتى تعرف واقعاً نعيشه الآن يستدعي الغضب والانكسار.
شكيب أبو جبل ليس مثل الملايين من الناس الذين تنحصر علاقتهم بالسياسة في سماع الأخبار، إنه من القلة القليلة من الرجال الذين عملوا بعيداً عن الأضواء ورسموا مقدمات جميلة لأحداث جليلة، رجال صنعوا الأخبار من الأعمال، الأعمال النضالية الكبيرة التي تتسم بالجرأة والخطورة، ولها علاقة بالوطن والأمة والقضايا المصيرية والأحداث التاريخية.
نعم، لم يكن شكيب أبو جبل من القاعدين الذي ينتظرون انتصارات يصنعها غيرهم، ولم يكن من الأشخاص الذين يقومون بأعمال وظيفية عادية ويعيشون حياة عادية خالية من القلق، بعيداً عن لهب الصراع.
شكيب أبو جبل
سيرة حياة.. سيرة نضال
في افتتاح المعرض الاول للاسير المحرر شكيب ابو جبل، ومشاركة وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس
ولد شكيب يوسف أبو جبل في شهر آب عام 1925في قرية الرامة في الجليل الأعلى في فلسطين، وأصله من مجدل شمس من محافظة القنيطرة في سورية، والدته ندى بدّور من قرية بكّفيا قضاء راشيا الوادي من لبنان، وقد أعطاه أهله هذا الاسم نسبة إلى المجاهد شكيب وهَّاب، أحد مجاهدي الثورة العربية عام 1916والثورة السورية الكبرى عام 1925.
في صغره، وهو في المدرسة، كان متفوقاً في مادتي الجغرافيا والرسم، ومن نوادر تلك المرحلة من حياته أن المستشار الفرنسي في القنيطرة أبلغ أستاذه المربي رشاد الدقاق أنه سيقوم بزيارة للمدرسة في القرية، فأوصاه الأستاذ الدقاق أن يقف عند قدوم المستشار ويحيي بصوت عالٍ العلم السوري وينشد بيت الشعر التالي:
عِشْ هكذا في علوٍّ أيها العلمُ
فإننا بك بعد اللـه نعتصمُ
وأن يردد مع زملائه بعدها نشيد «بلاد العرب أوطاني»، وعندما قام شكيب وزملاؤه بذلك استشاط المستشار الفرنسي غضباً، وشتم شكيب بالفرنسية.
ومن غرائب الحياة ومدهشات القدر أن تفوق التلميذ شكيب في الجغرافيا والرسم قد انعكس على نشاطه وعمله لاحقاً، فقد عرف المناضل شكيب أبو جبل تضاريس الجولان وتضاريس فلسطين والحدود اللبنانية والمصرية معرفة واسعة وتفصيلية، وعبر الحدود عشرات المرات عندما عمل في قسم الاستطلاع للجيش العربي السوري، وفي غرف الأسر في السجون الصهيونية رسم العديد من اللوحات. كان يرسم وكأنه في حلبة مصارعة، يرسم ويمزق ثم يرسم ويمزق، وبعد ستة أشهر من العمل المضني والإصرار على الإتقان تحسنت رسوماته حتى وصلت إلى درجة عالية من الجمالية والمستوى الفني. في البداية كان لا يرسم سوى المزهريات، ويقدم لكل سجين يُفرج عنه صورة مزهرية، ولكن بعد سنة من وجوده في سجن جنين تحسن عمله، وبدأ أفقه يتسع ما أثر في تنوع ونضج رسوماته، وخلال خمس السنوات الأخيرة من سنوات سجنه، في سجن جنين، رسم نحو 250 لوحة، فرز منها 80 لوحة وغلفها في ألبوم، وأرسلها مع باقي اللوحات مع الصليب الأحمر إلى زوجته في سورية، وقد أهدى للمفرج عنهم من سجن جنين ما لا يقل عن 60 لوحة، وأرسل إلى الأصدقاء والأهل في بلدته مجدل شمس عشرات اللوحات التي ما زالت معلقة في البيوت.
وبعد الإفراج عن شكيب أبو جبل في 28حزيران 1984، إثر عملية تبادل للأسرى بين سورية والكيان الصهيوني، أقام أبو جبل معرضاً للوحاته في المركز الثقافي العربي في دمشق حضره العماد مصطفى طلاس والأستاذ الفنان المرحوم فاتح المدرس الذي أعجب بالمعرض أشد الإعجاب ومنح أبو جبل بطاقة عضو عامل في نقابة الفنانين السوريين.
تحرير الاسرى في عملية التبادل” الشهيد فايز محمود في الوسط” يوسف شكيب ابو جبل وفندي ابو جبل 1984
تضحية.. صمود.. ومعاناة
عمل شكيب أبو جبل خلف خطوط العدو في فرع مخابرات الجبهة منذ عام 1953 حتى تاريخ الانفصال عام 1961 حيث تم تسريحه من فرع المخابرات السورية، غير أنه طُلب ثانية للعمل في هذا الفرع عام 1964. وعندما قامت حرب حزيران عام 1967 كان في منطقة جبل الشيخ يشرف على كل القطاع الشمالي وشهد ما حدث آنذاك من انسحاب كيفي وفوضى ونزوح وكان يحترق ألماً بما ترى عيناه.
ويذكر شكيب أبو جبل في كتابه «مذكرات أسير عربي في سجون الاحتلال الصهيوني.. اثنا عشر عاماً في سجون الاحتلال الصهيوني.. العضوية في مجلس الشعب»، أنه رغم أن الإسرائيليين دخلوا مدينة القنيطرة دون أن تطلق طلقة واحدة عليهم، إلا أن هناك بطولات قامت بها القوات السورية في تل الفخار وتل العزيزيات قرب بانياس والتل الواقع شرقي جسر بنات يعقوب وبطولات فردية أخرى، وفي هذه المواقع تكبد العدو الإسرائيلي عشرات القتلى، حيث قاتلت القوات السورية ببسالة عظيمة حتى آخر طلقة وحتى آخر قطرة دم، واشتبكت مع العدو بالسلاح الأبيض، واعترف العدو ببطولات تلك المواقع، وأقام بعد الحرب في هذه الأماكن نصباً تذكارية لقتلاه من جنود وضباط.
ويروي أبو جبل في كتابه حادثة مؤثرة جرت في تلك الأيام عقب هزيمة حزيران، ويقول:
وقعت حادثة مؤلمة جداً بالنسبة لي عندما وصلت مرتفع وادي الفوار، فلقد وجدت بجانبي كلب الصيد الذي كنت أقتنيه واسمه جاك، وهو كلب مدرب، وسبب متابعته لي من البستان ظنه أنني ذاهب إلى الصيد كالعادة، خاصة عندما رآني أحمل البندقية والجناد. وقف أمامي يتأمل وجهي وأنا جالس على حجر. قلت له: أولادي وزوجتي وبلدتي تركتهم، وأنا لا أعرف أين سأنام، وماذا سآكل. أدرت وجهي جانباً وأطلقت عليه طلقة من البندقية، لكنه نهض ونظر إليَّ معاتباً ثم كبا ميتاً.
في شهر شباط عام 1969 عاد شكيب أبو جبل إلى الجولان المحتل بترتيب وموافقة المخابرات السورية، وقد قام بتسليم نفسه إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي وتحمَّل فترة من السجن والتحقيق في سبيل الهدف الذي رسمه لنفسه في خدمة وطنه سورية. كان مهيأً لذلك أمنياً ونفسياً، حتى أنهم عرضوه على بروفسور نفساني وأجرى عليه فحصاً على «آلة الحقيقة وكشف الكذب»، وعندما اعتقل لاحقاً سألوه: «ليش ما خربطت على آلة الحقيقة؟»، أجابهم: «هذه آلة للأولاد»!
في عمله الأمني النضالي بعد عودته إلى الجولان، كان شكيب أبو جبل يقوم بتوزيع الأدوار والمهمات بنفسه على أعضاء شبكة المجندين: ثلاثة منهم عملوا في مرصد جبل الشيخ طوال ثلاث سنوات، أرسل أربعة إلى قناة السويس للعمل في خط بارليف، ثلاثة عملوا سائقين لنقل العمال الذين يعملون في تحصينات العدو العسكرية وبناء المستوطنات على الجبهة السورية، وعمل آخرون في مهمات مختلفة، وتم تكليف اثنين من الأنصار بجمع الصحف العبرية والعربية التي تصدر في «إسرائيل» وكان يتم إرسالها إلى سورية يومياً، وذات مرة تمت سرقة كاميرا تصوير من داخل سيارة مخابرات إسرائيلية كانت تقف في مجدل شمس بعد كسر زجاجها، وأرسلها أبو جبل إلى سورية ضمن البريد لإهدائها إلى المناضلة ليلى خالد.
لم يقتصر عمل مجموعة الاستطلاع بقيادة شكيب أبو جبل على منطقة محددة بل شمل فلسطين بكاملها، فلسطين المحتلة عام 48 والضفة الغربية وقطاع غزة، وسيناء والجولان والحدود اللبنانية، وكان أبو جبل يقوم بما يطلب منه شخصياً من مهمات وخاصة استطلاع المطارات والمواقع العسكرية.
في ليلة 27-28 كانون الثاني 1973 توجه عزت شكيب أبو جبل حاملاً معه بريداً فيه أربعة وستون تقريراً عن قوات الاحتلال وستة مخططات ومصورات وإحدى عشرة صحيفة، وانطلق من البيت في مجدل شمس في الساعة التاسعة مساءً، وكانت الأمطار تهطل بغزارة، وتوجه إلى فرع المخابرات السورية في الجبهة. وهذا البريد الذي كان يحمله فيه أمور مستعجلة يجب بحثها دون إبطاء. وعلى مقربة من نهر المغيسل أطلق عليه النار كمين إسرائيلي، فأرداه قتيلاً، وقبض على البريد. بعد ساعتين من استشهاد عزت أبو جبل تم اعتقال والده شكيب أبو جبل، وبسبب ورود أسماء كثيرة في البريد المقبوض عليه بدأت موجة اعتقالات في مجدل شمس. وأخيراً كانت حصيلة ذلك: اعتقال شكيب أبو جبل، وأفراد المجموعة
تم تقديم شكيب أبو جبل إلى المحكمة العسكرية الإسرائيلية وكانت مؤلفة من ثلاثة حكام عسكريين برئاسة العميد هامفري، وهو يهودي من أصل ألماني ومعروف بحقده وشراسته، وقد نطق بالحكم على شكيب أبو جبل مبتدئاً بعبارة: ستخرج من السجن إلى القبر، وكانت جملة الأحكام 315 سنة، وهذا يعني بقاء أبو جبل في السجن 30 عاماً.
قضى شكيب أبو جبل في السجون الصهيونية 12 عاماً، وتم الإفراج عنه وعن رفاقه في 28حزيران 1984 بعد عملية تبادل للأسرى بين سورية و«إسرائيل».
يقول المناضل شكيب أبو جبل في مذكراته: «ذات يوم أرسلت رسالة إلى زوجتي، قلت فيها: رغم السجن الرهيب والأسوار العالية والأسلاك الشائكة والسجن والسجان، فإن عبير زهر البرتقال الفلسطيني يدخل علينا، واليوم دخلت علينا عصفورة فري. قمنا بإكرامها ومعالجة جناحها المصاب، ثم أطلقناها، وحمَّلناها التحية والسلام لك ولأولادي وللأرض الطيبة».
ويقول في مذكراته أيضاً: «لو حكمت إسرائيل عليَّ أربع سنوات أخرى لاعتبرتها قدمت لي خدمة غير مقصودة، أنا في السجن تغلبت على كل العفن الموجود في نفسي، وقرأت 184 كتاباً، منها كتب قرأتها أكثر من مرة، كالكتب المتعلقة بالصراع العربي- الاسرائيلي، وحركات التحرر العالمية، ومذكرات كبار القادة السياسيين والعسكريين، كما قرأت مجلدات النكبة، وتاريخ القدس للدكتور عارف العارف الذي أرَّخ لكل شبر في أرض فلسطين، والأهم من هذا كله أنني خرجت من السجن أكره الظلم وأعشق الحرية وأحبُّ الإنسانية».
بعد خروج المناضل شكيب أبو جبل من الأسر، قابله الرئيس الراحل حافظ الأسد، وقلده وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة. وتقديرا لنضاله تم تعيينه نائباً في مجلس الشعب السوري طوال 12 عاماً لثلاث دورات متتالية.
أما الآن، فإن المناضل شكيب أبو جبل يعاني من المرض إثر كسر في العمود الفقري. ففي «يوم الأرض» عام 1976 في سجن الرملة، اشتبك الأسرى الفلسطينيون والعرب مع السجانين الإسرائيليين، وقام أحد هؤلاء السجانين بضرب شكيب أبو جبل بزاوية حديد، ضربه بحقد وهو يقول له: «أنت سوري، ما دخلك في فلسطين»!!
هذا هو المناضل الأسير السابق شكيب أبو جبل: جبل من النضال.. سيرة طويلة من الشجاعة والعطاء والتضحية.. أحب فلسطين.. أحب جمال عبد الناصر.. أحب وطنه سورية وخدمها بشرف وقدم لها ولده عزت شهيداً.. وقضى هو وابنه يوسف في سجون الاحتلال الصهيوني سنوات طويلة..
ام يوسف زوجة الاسير شكيب ابو جبل” لم تعرف من الحياة سوى العطاء والصمود
إنه الآن يقاوم المرض منذ 5 سنوات، حبيس منزله في جرمانا مع زوجته «ورد الشام أسعد العجمي» (أم يوسف)، تزين جدران منزله لوحاته الجميلة التي أبدعها في الأسر.. يجلس حيناً ويمشي حيناً حتى لا تتيبس أطرافه من القعود.. تنعشه زيارات رفاقه ومحبيه وتجعله يتحدث بعنفوان عن أيام النضال وعن أمة كان حالها غير هذا الحال، ولأن راهن الأمة لا يسر والزيف منتشر في هذا الزمان، ولأن شكيب أبو جبل خبر العز في زمانه وكان صادقاً مع ذاته ومع قضيته، فإنه يرى أن أكثر ما «يسم البدن» الآن، أمران: سماع الأخبار.. والكذب!!
في بيته في جرمانا، قدَّم لي ألبومه الذي يحتفظ به من الأسر، وشرعت أتصفحه وأقرأ العبارات التي كتبها بخطه الجميل، عبارات له وعبارات لأدباء ومفكرين ومناضلين عالميين، ومنها:
– من سفوح الشيخ، أنظر إليك يا وطني.
– وطني علمني: كره الظلم.. وعشق التحرير.. وحب الإنسانية.
إذا عرفنا أن قائل هذه الكلمات هو عربي سوري من الجولان، فإن هذه الكلمات هي شكيب أبو جبل.. عمره.. ومعنى حياته.
الاسيرين شكيب ابو جبل وابنه يوسف ابو جبل في معتقل الرملة الاسرائيلي