ألوان من كواليس العتمة
سليم أبو جبل* 24/05/2005
يرفض إيهاب سلامه مخرج مسرحية “ألوان من العتمة” تسمية الممثلين فيها بالأطفال، رغم أن أعمارهم تتراوح بين 8 و15 سنة، الأمر الذي جعل مدير المسرح معتز ابو صالح يلقبهم بالفرسان الـ18 للخروج من معضلة التسمية. إلا أن إطلاق “مسرح أطفال” على المشروع المسرحي لمسرح عيون الجولاني، يعتبر غلطة يحاسب عليها المتكلم بمنولوج حاد من إيهاب سلامه يدافع فيه عن رؤيته لمشروع مسرحي متكامل، ولا يعني بالنسبة إليه صغر سن طاقم الممثلين أي شيء خاص، ولا يبرر لأحد أن يطلق هذه التسمية اعتباطًا، مما يخلق نقاشًا جديًا حول ماهية مسرح الأطفال. فهل هو ذلك الذي يقدمه الأطفال، أم المسرح الذي يقدمه الكبار للأطفال؟ وهل على الأطفال المشاركة في التمثيل أم في المشاهدة؟ أم أن كلا الشرطين يفي بشروط تسميته بمسرح أطفال؟
استحوذت الدهشة وسيطر الإعجاب على المشاهدين للعرض المسرحي ” ألوان من العتمة” خلال عرضه في مجدل شمس، ووصلت شائعة وجود مسرحية تعرض على خشبة رابطة الجامعيين إلى البيوت، وبات الحديث مع نكهة مشروب المتة يتناول في خضم طقوس النميمة الصباحية هذا الحدث وما يتضمنه من هموم صغيرة تثير الضحك، وقصص طفولية عن الألغام، التخطيط للثورة والاقتناص من الجيش الإسرائيلي في البلدة، وبهذا تكون هذه إحدى المرات النادرة التي تسجل فيها أخبار النميمة النسائية تقدًا اجتماعيًا في صالح الحدث.
ومما يزيد الحدث أهمية حجم التوافد والإقبال على حضور المسرحية، فلم تشهد هذه البلدة النائية عن الوطن القريبة من الشريط الحدودي من قبل حدثًا ثقافيًا جعل الجمهور المتوافد يقف في الانتظار عند باب المسرح، فلا يسمح للدخول إلا لمائة ممن تسعهم القاعة، فيبقى أكثر منهم خارجًا يعاتبون ويطالبون بالدخول، وقد أعلن عدد من الأطفال على أثر ذلك عن غضبهم من تكرار محاولة الدخول دون نتيجة، وهددوا بمقاطعة المسرح، مما جعل المنظمون يمددون العروض لأيام أخرى.
وفي العرض الوحيد في مسرح الميدان في حيفا، وقف الجمهور لدقائق وهو يصفق وأغلبه من العاملين في مجال المسرح كممثلين ومخرجين وكتاب وفنيين وأصحاب مسارح خاصة، طال التصفيق وطال اختفاء الممثلون عن الظهور مرة أخرى لتحية الجمهور، الأمر الذي جعل المخرج أيهاب سلامة أن يقوم بما نسي تعليمه للممثلين; دعوتهم للظهور مرة أخرى والحضور واقفون يصفقون.
كيف ولد “مسرح عيون”؟
بدعوة من الكاتب والشاعر معتز أبو صالح قدم أيهاب سلامة إلى مجدل شمس، ليعلم بعض الأطفال أصول العمل المسرحي، وبعد ستة شهور من اللقاءات الأسبوعية بدأ التحضير للعمل الأول الذي كتبه معتز أبو صالح تحت عنوان “لعبة الأحلام” . وحين جاء دور العمل التالي الذي أراد أيهاب سلامه من خلاله إعطاء الممثلين الفرصة لصقل مهاراتهم الخاصة وتقديمها بشكل فردي، كان الوقت قد حان لتعليم الممثلين كيفية تحمل مسؤولية العرض المسرحي كاملة عبر تقديم مونولوج، وهو عرض فردي، يكون الممثل هذه المرة صاحب الحكاية، أي حكاية ذات أثر خاص، تكتب بلغة مسرحية وتقدم للحضور على أنها قضيته التي يريد أن يحكيها للآخرين.
ومع هذا العمل ولد المسرح في الجولان تحت اسم “مسرح عيون” بشكل رسمي، وهو طموح قديم لم يتحقق إلا عندما كان كل من الكاتب معتز أبو صالح والممثل إيهاب سلامه على استعدا لتقديم كامل جهدهم وطاقتهم دون الالتزام في أعمال أخرى، مما وفر للمسرح تفرغًا يتطلبه العمل الفني حين يكون الهاجس ممارسة تربوية، فنية وثقافية بحته وليس مجرد مهنة أضافية، أو مصدر معيشة.
أمسية مونولوجات أم مسرحية؟
أصابع صغيرة تنقر الستارة الحمراء من الداخل، تهيئنا لثورة لطيفة يبدأها “عروة” بمنولوج من مسرحية هاملت لشكسبير يقدم فيها ألوانًا مسرحية ثلاثة، ويليه “كمي” يحكي قصته مع موت القطه، ثم إسماعيل يخطط للثورة والاقتناص من الجيش، وتتوالى المشاهد واحدًا تلو الآخر، في سياق منظم لا يكسره سوى ثلاث فتيات صغيرات يتدخلن في العرض ويقفزن إلى المنصة في وخلال وبعد كل مشهد، مما جعل أمسية المونولوجات تشهد عملا مسرحيًا ثانيًا يتداخل وع المشاهد الفردية، ويثبت وجوده كعمل مرافق ومستقل في ذات الوقت، وهكذا قلبت مسرحية الصغيرات الثلاث نظام الأمسية وجعلته مسرحًا، ويكفي أن أدعو كل من شاهد العرض أن يتخيله دون الفتيات الصغيرات الثلاث… وهنا يأتي دور فحص جنسية العمل هل هو أمسية مونولوجات أم مسرحية؟ في الحالتين يبدو الأمر غير مهم خاصة بالنسبة للمخرج أيهاب سلامه الذي يرى في هذا العمل تدريب مسرحي على مواجهة الجمهور قبل أي شيء آخر، ولكن المفاجأة كانت أن النتيجة أتت بأفضل من المتوقع والمطلوب، وذلك بفضل الرغبة الكبيرة التي تتملك الممثلين، وعشقهم الفطري للمسرح واللعب، وهم لا يزالون بعدُ أنقياء من لوثة الغرور وطلب الشهرة.
متعة ومسئولية.
الأداء المدهش للممثلين والذين يبلغ عددهم 18 ممثل جعل من الجمهور الفني والمسرحي في حيفا يقف ويصفق طويلا وهو لم يشهد من قبل عملا مهنيًا يتسم بهذا القدر من الحرفية وخاصة حين يأتي من ممثلين صغار السن، ويمكنني في هذا السياق أن أفسر الأمر بناء على طريقة العمل التي يقوم بها المخرج إيهاب سلامه والتي تعتمد على إخراج القدرات والرغبات الموجودة داخل الأطفال وحثهم على اللعب كما اعتادوا أن يفعلوا في ألعابهم الطفولية، مع تقديم التوجيهات والملاحظات والتحسينات من الوجهة المسرحية المهنية، أي أن تقديم التعليمات ومحاولة حث الأطفال على التمثيل لم تكن لتجدي نفعًا، فيكفي أن يكون المسرح متعة ومسئولية لكي ينجح الفعل المسرحي. وللأطفال في عالمهم الخاص ألعاب تحكمها قوانين، وهذه القوانين هي سر نجاح اللعبة وأصل التشويق وسبب الفوز، تمامًا كما هو المسرح لعبة تحكمها قوانين، وحين الإخلال بها تفسد اللعبة وينتهي التشويق ولا يكون فوز. قد يكون هذا هو سر نجاح مسرحية ” ألوان من العتمة” وقد يكون هذا هو الدرس الذي على الممثلين الأكبر سنًا أن يتعلموه.
الثورة والسنافر….
منذ المشهد الثالث يبدأ التخطيط للثورة على يد “إسماعيل” وخلال المشاهد التالية يتلقى المشاهدون مكالمات من إسماعيل يدعوهم فيها إلى الانضمام إلى التمرد الذي يقوده، وتقوم الفتيات الثلاث الصغيرات بدور عاملات المسرح، وبذلك التوصيل بين إسماعيل والذين يقدمون مشاهدهم الخاصة، ويطلق أيهاب مخرج العمل عليهن لقب “السنافر”، وقصة السنافر مع المسرح تدعو إلى التفاؤل، فقد قدموا إلى التدريبات المسرحية لأجل المشاهدة ولم يكن لهم أي دور مرتقب في العمل القادم، ولكن بناء على المواظبة والرغبة الكبيرة بالانخراط في العمل المسرحي تم إشراكهم وإيجاد دور لهم.
ألوان كثيرة وسرير واحد!
رغم تنوع المشاهد والمواضيع المختلفة للمونولوجات، إلا أن سرير واحد في على خشبة المسرح كان كافيًا، ويمكن القول أن القدرة الإخراجية لإيهاب سلامة والإشراف المهني والمتابعة المستمرة من قبل معتز أبو صالح أتاحت للعمل النجاح، واستطاع طاقم العمل الخروج بأفضل ما يمكن من أقل ما يمكن، ولكن هل كان السرير الواحد اختيارًا مهنيًا أم قسريًا بسبب عدم توفر الميزانية اللازمة؟
يعمل مسرح عيون في إطار النشاطات الخاصة للجمعية العربية للتطوير، وعلى ما يبدو أن المشروع الذي لا يزال في بداياته قد يلقى مصيرًا مؤسفًا فيما إذا كانت ميزانية الإنتاج المسرحي شحيحة، فالإنتاج المسرحي يتطلب الكثير الكثير من العمل والموارد، ومن هنا يتوجب التعامل مع مشروع المسرح على أنه مشروع أكثر من محلي يستطيع أن يساهم ويغني الحركة المسرحية داخل وخارج الجولان، ولا غرابة أن يصل هذا المشروع إلى أبعد ذلك.
بعد اختبار المقدرة على إنشاء مشروع مسرحي بإمكانيات محلية متواضعة، بات من الضروري وخاصة بعد النجاح الكبير أن يقف الجميع وراء هذا المشروع، لان توقفه لأي سبب كان يدعو لفقدان الثقة بالمؤسسات الفاعلة، وفقدان الطموح وروح المبادرة لدى الأطفال الذين يبذلون كل ما باستطاعتهم للاستمرار فيه كحلم يتحقق أمام ناظرهم ولا يريدون الاستفاقة منه.
* سليم أبوجبل – كاتب جولاني