شهداء من الجولان
عشتار نيوز للاعلام والسياحة/ شهداء.
من الارشيف نُشرت في 07/06/2006
من الصور التي تبقى محفورة في الذهن والوجدان… منظر امرأة متوسطة العمر كانت تذهب في يوم معين من كل عام, من لبنان إلى دمشق, ومنها غرباً إلى شمالي الجولان أمام السفح الجنوبي لجبل الشيخ, وبالذات إلى قرية (سُحِيْتَا)… وتقف أمام قبر عليه صفائح رخامية, وتضع باقة من الزهور النضرة على شاهدة القبر التي كتب عليه اسم الشهيد “فؤاد سليم”..
لا يستطيع أحد أن يصف انفعالات تلك المرأة, التي عرفنا أنها ابنة ذلك الشهيد العظيم, فالحزن, والوفاء, والمحبة, والاعتزاز, تمتزج كلها وتظهر تعابير مقدسة على وجه تلك المرأة…
لقد انقطعت تلك الزيار السنوية بسبب وقوع قرية “سحيتا” تحت الاحتلال الصهيوني عام 1967, وقيام سلطات الاحتلال بتهجير سكانها إلى قرية مسعدة المجاورة, وتدمير تلك القرية, ومسحها عن وجه الأرض… ومن ضمنها – طبعاً- قبر الشهيد… فؤاد سليم…
وإذا عدنا إلى البداية… فنجد أن هذا البطل الشهيد ولد في (بعقلين) الشوف (لبنان) عام 1894, وقرية عائلته هي (جباع الشوف) وكان والده الطبيب الرسمي لقضاء الشوف, تلقى فؤاد تعليماً في الجامعة الأمريكية في بيروت, ثم عمل معلماً لعدة سنوات.
وبعد اندلاع “الثورة العربية” ضد الأتراك عام 1916, تاق للالتحاق بها, وحقق ذلك بعد أن دخلت جيوش “فيصل بن الحسين” مدينة العقبة في تموز 1917, فانطلق من جبل لبنان إلى جبل العرب, حيث ساعده أقرباؤه من قرية (المجيمر) في الوصول إلى شرقي الأردن, وقدم نفسه للأمير “فيصل” الذي ألحقه بعمل كتابي في قيادة الجيش.
ولكن فؤاد… لم يقبل أن يبقى بعيداً عن المعارك, فطلب الانتقال إلى قطعات الجيش المقاتلة, والتحلق بمفارز التدمير, التي استهدفت خط سكة حديد الحجاز لمنع الأتراك من استخدامها.
وأبدى (فؤاد) بطولات رائعة في القتال, فرقي إلى رتبة رئيس وبقي ضابطاً في جيش الحكومة العربية التي تشكلت في دمشق بعد هزيمة الأتراك.
وتابع فؤاد نضاله ضد الفرنسيين, فقاد فصائل الثوار في البقاع, ووادي التيم (راشيا وحاصبيا ومرجعيون) ضد القوات الفرنسية, وورد اسم فؤاد سليم في بنود (إنذار غورو) الشهير, والموجه إلى الحكومة العربية في دمشق, بأن تقوم تلك الحكومة بوقف نشاط هؤلاء الثوار.
وفي معركة ميسلون 24 تموز 1920 كان فؤاد في طليعة الضباط البواسل الذين صمدوا وسط لهيب القتال, وقد ثبت ساعة التقهقر بعدما استشهد القائد البطل “يوسف العظمة”, وتعرض للرصاص والموت مرات عديدة ولكنه نجا من الموت بأعجوبة.
وبعد أن قضى الفرنسيون على الدولة الناشئة في دمشق, نزح قادة ثوار العرب إلى شرقي الأردن, فتابع عمله في “الجيش العربي” وتولى رئاسة أركان ذلك الجيش وكان برتبة عقيد وتزعم الضباط المنتمين إلى (حزب الاستقلال) الذي عمل على تنظيم الصفوف لمحاربة المستعمرين.
مارس النفوذ الاستعماري البريطاني, ضغطه لإخراج هؤلاء الأحرار من الأردن ومن ضمنهم – فؤاد سليم- فاتجه إلى (الحجاز) ومن ثم إلى (مصر) حيث أقام في القاهرة, ونشر في صحفها ومجلاتها مدافعاً عن قضية سوريا والعرب, ويذكر الأمير (شكيب أرسلان) عن كتاباته هذه, ضمن مقال في رثائه بعنوان: “فؤاد كليم على فؤاد سليم” قائلاً: «لقد كان في ساحة الجلاد, السبع الهصور والبطل الأتبع, وفي ساحة الجدال العالم المصقع والكاتب الأبرع, ومن مِن قراء العرب لم يعجب بمقالاته الشائقة الفائقة, التي تنم عن ذكاء خارق للعادة, وحكم باهر المنطق, واطلاع واسع المدى, ولغة ثقفية النغمة, ونفس عالية ولا كالنفوس, ورأس مفعم بالإباء والعزة ولا كالرؤوس, فمن قرأ كلامه عرف قدره ولو لم يعرف وجهه».
وعندما علم (فؤاد) باندلاع الثورة السورية الكبرى في صيف 1925, سارع للالتحاق بها, وحاول الإنكليز منعه من السفر, فما كان منه إلا أن خرج بوسائله الخاصة, واجتاز صحراء سيناء على ظهر جمل, ووصل إلى فلسطين, واجتاز نهر الأردن سباحة, ودخل الأردن خلسة, ومن (عمّان) اصطحب شقيقه (نصري) وغادرا إلى جبل العرب حيث التحق بقيادة الثورة, وشارك في معركة (المسيفرة) وكان من أركان الثورة.
وبدأ يعمل مع إخوان الثوار على تطوير الثورة لتشمل سورية كلها, وثم الاتفاق على أن يتولى (فؤاد) تنظيم حركات الثوار في منطقة (إقليم البلان) و(وادي التيم) على جانبي جبل الشيخ لكي تضطرب القوات الفرنسية وتوزع قواتها وجهودها.
وكانت الثورة في (إقليم البلان) السفوح الجنوبية لجبل الشيخ المتصلة مع شمالي الجولان قد اندلعت, وطلب ثوار (إقليم البلان) الذين كان يقودهم المجاهد (أسعد كنج أبو صالح) النجدة من القيادة العامة للثورة.
وقد أرسلت تلك النجدة على شكل حملة من الثوار ذهبت إلى الإقليم برئاسة المجاهد (زيد الأطرش) “شقيق سلطان”, وتولى رئاسة أركان الحملة العقيد “فؤاد سليم” وجعلت الحملة مقراً لها قرية (مجدل شمس)وتوسعت منها في شمالي الجولان, ونحو التيم, فحررت حاصبيا ومرجعيون وراشيا في معارك بطولية رائعة ساهم فيها (فؤاد سليم) بكل خبرته وشجاعته, وكان العقل المدبر للمناشير الوطنية التي أصدرتها الحملة لشرح أهداف الثورة تحت الشعار الرائع: «الدين لله والوطن للجميع».
بعد هذه الانتصارات التي حققها الثوار, جهزت الجيوش الفرنسية حملة لاحتلال مجدل شمس – قاعدة الثوار- وانطلقت الحملة الفرنسية من القنيطرة باتجاه مجدل شمس واحتلت قرى (بقعاتا ومسعدة) ودمرتها رغم المقاومة البطولية للثوار, واقتربت من مجدل شمس, فتحصن الثوار أمامها, وأشرف “فؤاد سليم” على تنظيم دفاعات الثوار حول القرية, وبدأت الاشتباكات في 1 / 12 / 1925 وحصلت مواجهات بطولية حاسمة استبسل فيها الثوار.
وفي اليوم الثالث من هذه المعركة كان فؤاد يقود الثوار في الجناح الشرقي لجبهة الدفاع عن مجدل شمس غربي قرية سحيتا, فأصيب بشظية مدفع في رأسه, وتلقاه قائد الحملة زيد الأطرش, ولفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه… وكان ذلك يوم الخميس 3 كانون الأول 1925.
وروى دمه الطاهر تراب الجولان, دفاعاً عن أرض الوطن. واستطاع الثوار في هذه المعركة أن يهزموا القوات الفرنسية المهاجمة ويطاردوها حتى القنيطرة, بعد أن خسرت أكثر من 500 قتيل.
لقد أثار استشهاد البطل فؤاد سليم الأسى العام, فعنه قال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر مؤبناً: «إن العقل الراجح, إذا انضمت إليه الشجاعة النادرة, وكان الإخلاص حلقة الوصل بينهما تمثل أمامنا بشخص شهيد الوطن… فؤاد سليم».
وقد أبّنه الشهيد القائد (محمد سعيد العاص) بقوله: «لقد كان فؤاد بطلاً من الأبطال الحلاحل الغر الميامين, ومن خيرة رجال القضية, نافح عن كيان وطنه بسيفه وقلمه وبدماغه… كان مثالاً للتضحية, فقد ضحى بنفسه وبوظيفته وبماله, وبكل عزيز لديه في سبيل حرية سورية خاصة, وفي سبيل استقلال العرب عامة, فإذا بكينا فؤاداً, فإنما نبكي العلم والتضحية, نبكي الفتوة العنترية, والبسالة العدنانية, نبكي الوفاء والجود, نبكي الإباء والشمم, نبكي الطموح والكرم, نبكي الهمة الثابتة والشجاعة الخالدية, لقد فقدنا قائداً مدرباً حكيماً محنكاً, وإن الزمان بمثله لضنين, رحم الله زميلي البطل وأسكنه فراديس جنانه.
فليسلك شباب الوطن نهجه…… وختاماً… سلام الله عليك يا فؤاد يوم ولدت, ويوم استشهدت, ويوم تبعث حياً.
زميلك في الجهاد: محمد سعيد العاص»
لقد خلّد أهلنا في الجولان المحتل شهداء الجولان خلال الثورة السورية الكبرى, بأن أقاموا نصباً تذكارياً سجلوا عليه أسماء هؤلاء الشهداء, ومنهم (فؤاد سليم).
وإذا كانت أسلحة الفرنسيين قد قتلته… وجاءت جرافات الصهاينة ودمّرت قبره فإن فؤاد سليم, قد أصبح جزءاً من تراب الجولان, ودخل كل ذرة من تراب الوطن, مؤكداً باستشهاده وحدة المعركة القومية ضد الغزاة, ومغذياً أزاهير الوطن الحمراء… وصمود المناضلين الأبطال الشرفاء.
نسيبة صالح