الشهيد عزت شكيب أبو جبل
ذكرى مشرفة للنضال ومقاومة الاحتلال
1951-1973
عشتار نيوز للاعلام / شخصيات جولانية/ شهداء الجولان
بقلم: أيمن أبو جبل
27-1-1973
هنا في هذا المكان ولد وعاش عزات شكيب ابو جبل. كانت كروم العنب تغطي المكان والذكريات، فتشعر في لحظات الحاضر انك تنغرس في ماض الحكايات، حكايات عمدتها الدماء، ودروب الشوك، ورحلة طويلة من الالام والحرمان. هي حكايات من التاريخ، ما زالت تومض تحت أعمدة هذا البيت وجدران غرفه، وتراب حديقته الصغيرة، التي غطتها يوما مساحات واسعة من دوالي العنب واشجار التين والخوخ، رافضة الموت والاقتلاع، تتشبث في جذورها، متحدية استبدال الزمان وشريط طويل من الأحزان.. ذكريات على أنغام العتابا والميجانا، وصوت شقرقرة طيور الحجل والسنونو، وأصوات القهقهات والضحكات التي ميزت ليالي وفضاء هذا المكان، في زمن كانت تُصنع في الخفاء والكتمان بطولات ومآثر، وآيات من العشق والحب، وجمال التضحيات، لرجال حملوا الوطن داخل اسرارهم الثورية، وانطلقوا في رحلة البحث عن كرامة الوطن والإنسان، المفقودة تحت أنقاض العدوان والهزيمة والحقوق السليبة.
كثيرة هي الحكايات التي يختزنها هذا البيت، وكثيرة هي القصص، وشاسع هو الألم المدفون في الصدور، فالجراح عميقة، وومضات الماضي توهج حتى اللحظة، بعطاءات رواده من الرجال والنساء، تحمل في بريقها بقايا حلم يتسلل كالشمس، من كل الجهات والزوايا.
شاءت الأقدار أن يُستبدل اسم هذا البيت إلى “بيت الفن”، ويتحول إلى معهد للموسيقى والغناء والمسرح، بعد أن غزته عجلات التطور والتقدم وأنماط الحياة المدنية، فهجره أهله، سوى من ذكرياتهم التي حملوها في حقائب سفرهم وغربتهم، وإقامتهم الجديدة، فلم تعد كروم العنب وثمرات التين، وصوت المذياع الوحيد، وطيور الحجل، تحوم حوله، أو تحمل داخل جدرانه أية هموم من هموم لعبة الموت – الموت من اجل الحياة، ولم تعد الأسرار الثورية تحلق في فضاءه، كما لم تعد عيون ونظرات وصلوات أم يوسف ورد الشام ، تودع الرجال، كعادتها بنظراتها ودموعها المنهمرة، حين كان رواد هذا المكان يقتحمون الموت في مهماتهم وعملياتهم خلف المواقع الأمامية لجيش الاحتلال، وإذا ما عادوا سالمين، عاد للحياة رونقها، وللبيت روحه الإنسانية، فتبدأ أغنيات العاشقين وسهرات الصيد والشواء من جديد. ولم يعد “الشب البيروتي”، كما كانت تصف ابنها عزات ذي العينان الزرقاوان، والأكتاف العريضة، يحوم متهربا من رغبتها وإلحاحها عليه بالزواج والاستقرار، لانه كان يعتبر أن الواجب والعبور مزودا بالتقارير والخرائط والصور، كان اهم بالنسبة اليه من كل نساء الأرض.
أم يوسف ورد الشام والدة الشهيد
وأنت تبحث في صفحات الماضي، تتزاحم أمامك صور من عاش هنا، ومن سكن هذه الغرف، ومن علت ضحكاتهم وصوت بكائهم أجواء المكان، حتى تنتابك مشاعر من الرهبة والخوف، وأحاسيس من اللوعة والشوق والبكاء معاً، على أشياء لم يتبق منها سوى بقايا أطلال وذكريات، وأوجاع ما زالت تئن تحت ضربات النسيان.
المكان واحد، ولكنه الزمان، والشخوص، والأحداث قد اختلفت وتغيرت. تشتم فيه عبق الماضي، لكنك تقف على أطلاله جامدا تأسرك الذكريات، وقصص البطولات الصغيرة، التي تجسدت على صفحات تاريخ هذه البقعة الصغيرة من الجولان السوري المحتل، صفحات نُقشت على أعمدة البيت وأرضيته المرصوفة بعناية فائقة، تحدق طويلا لتلامس بصمات أناس عبروا منه لمعانقة المجد بجراحهم وأفئدتهم المكسورة، وأحلامهم الضائعة، ما بين وطن ما زال يكبر تحت الأنقاض، هناك في ظلام المعتقلات، وشهيد مسجى هنا، تحت التراب، فلم يتبق منه سوى ذكريات وقصص، أهملتها ذاكرة من عايشها ورافقها، ولوعة أم عجوز كان شوقها إليه كاحتراق الجمر في قلبها.
إن الحياة كرزنامة نقطع ورقتها كل يوم، فتأخذ معها حلوها ومرها. ولاعتبار أنها يجب أن تستمر، فإن بعض هذه الأوراق تحمل ذكرى هي أثمن من أن تقطع. وإذا اعتبرنا أن إحدى السلبيات الجولانية، طوال سنوات الاحتلال، كانت إهمال الذاكرة الوطنية والسياسية والاجتماعية والتربوية، وعدم أرشفتها وكتابتها بموضوعية، وإتباع، دون قصد، ذهنية نسيان مواقف مضت وأحداث جرت، ورجال استحوذوا على مكانة العظماء والشرفاء والقديسين والأنبياء، فإن ظروف اليوم تجبرنا على أن نتغير، ونحارب النسيان فينا، كما محاربته حولنا.
فالوطن الكبير الممتد في التاريخ والجذور يداهمه الخطر من جديد، والعابثون داخله وخارجه ينفثون سمومهم وطعناتهم الغادرة، والجولان.. هذا الجزء المنسي الصغير ما زال يئن تحت سياط الاحتلال المتجددة. فلم يعد مسموحاً أن يقودنا النسيان إلى أغواره، لأنه يستحيل للزمن أن يدمل جراحنا بسرعة، فكلما بقيت أصبح ثمن دملها غاليا جدا..كما هي غالية ذكرى الجراح النازفة من دماء الرجال الذين مضوا إلى جنان المجد والخلود، في حين كان الآخرون الأقرب إلى أشباه رجال انعدمت فيهم الأحلام والرغبة في معانقة الحياة التي تليق بمعادن الرجال.
في ليلة 27-28/ 1/ 1973 كانت الأمطار تهطل بغزارة. انطلق عزات أبو جبل، حاملا معه بريدا فيه 64 تقريرا عن عمل قوات الاحتلال، وستة مخططات وصور، وإحدى عشرة صحيفة عبرية، تتناول الجوانب العسكرية والاقتصادية والسياسية في دولة الاحتلال. خرج من بيته عند الساعة التاسعة مساء، متوجها إلى فرع قيادة الجبهة السورية عبر خط وقف إطلاق النار. احتوى البريد الذي كان يحمله على أمور مستعجلة يجب بحثها دونما إبطاء.
على مقربة من وادي “مسيل المغيسل”، قرب موقع عين التينة، كان كمين إسرائيلي بانتظاره فأطلقت عليه النار ليسقط شهيداً، ويصادر البريد الذي كان بحوزته. بعد ذلك قام الجنود الإسرائيليون بربط رجليه إلى جيب عسكرية، ثم جروه حتى “معصرة السكرة” القديمة، جنوب شرقي مجدل شمس، ونقلوه محمولا بعدها إلى مقر الحاكمية العسكرية الإسرائيلية في قرية مسعدة، حيث تكتمت السلطات الإسرائيلية على إعلان اسمه، وموعد استشهاده، من اجل أن تقوم بفحص البريد، وإجراء الاعتقالات. بعد يومين استدعت قوات الجيش كل من: محسن أبو صالح من قرية مسعدة، وتركي العجمي (خال الشهيد) من مجدل شمس، وأيوب أبو شاهين مختار قرية بقعاثا، للتعرف على الجثة، وفقط بعد أربعة أيام من احتجاز جثمانه تم تسليمه إلى عمه الشيخ نعمان أبو جبل، حيث وري الثرى في مسقط رأسه في مجدل شمس، في ظل أجواء من الخوف والرعب والهلع أصابت السكان، بعد اكتشاف أمر أعضاء شبكات المقاومة الوطنية السورية في الجولان المحتل، وبدء حملة اعتقالات واسعة وعنيفة، شنتها قوات الاحتلال ضد المواطنين.
في ذات الليلة، يستذكر والده في مذكراته، “وفي تمام الساعة 12 ليلا طرق الجنود الإسرائيليون باب المنزل، يتقدمهم الحاكم العسكري لمجدل شمس “يهودا الباشان”، وايلي كوهين، مسئول المخابرات في منطقة الجولان، إضافة إلى عدد أخر من أفراد البوليس الإسرائيلي. وفور دخولهم سألوا عن ابني عزات. قلت لهم اعتقد انه نائم في غرفته، أو ما زال لدى أصدقائه خارج البيت، فقد اعتقدت أنهم القوا القبض عليه في طريق عودته من مهمته. ثم دخلوا وبدأوا في تفتيش البيت كله، بعد أن وضعوا القيود في يدي، وعاثوا الخراب في محتويات البيت واخذوا عددا من الصور والمطبوعات، وسرقوا بعض الحلي الذهبية و13 ألف ليرة إسرائيلية، و200 دينار أردني، واقتادوني إلى سيارة عسكرية. استطعت أن أرى ابن أخي هايل أبو جبل داخل السيارة وهو مقيد ومعصوب العينين. (هايل كان مساعدي الأيمن بعد عودتي إلى الجولان من الوطن ). لم أكن خائفا من اعتقالي لأنه كان بيني وبين ابني عزات وباقي أفراد المجموعة اتفاقا مسبقا: أن لا يعترف أي شخص عن شخص أخر وكل شخص مسؤول وحده عن نفسه، ولا علاقة لأحد بالآخر. وصلت بنا السيارة إلى معتقل الجلمة (سجن الياجور). في الصباح 28/1/1973 كنت أمام المحققين الإسرائيليين واحدهم يدعى “غاد” الملقب أبو علي، حيث قال لي وأخيرا “صادك الفخ.. أنت فيل عصيان، وجلبنا لك مروضا حتى أوصلك إلى هنا. والمقصود بالمروض هنا هو احد العملاء. الذين كانوا يراقبوننا عن قرب”.
بعد استشهاد عزات أبو جبل، ولم يكن قد تجاوز الثانية والعشرين عاما بعد، أعلنت إسرائيل عن كشف خلايا المقاومة الوطنية السورية في الجولان، التي قاومت الاحتلال، وقفت ضد المشروع الإسرائيلي، وضد إقامة مجالس محلية ومذهبية طائفية، وعملت على خلق موقف شعبي لرفض التعامل مع القوانين الإدارية والقانونية الإسرائيلية، التي حاولت السلطات تطبيقها على السكان السورين، من خلال فرض ضريبة الدخل والأملاك، وربطهم بالعجلة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الإسرائيلية، في محاولة سلخ الجولان أرضا وشعبا عن انتمائه الوطني السوري.
الشهيد عزت ورفيق دربه فوزي ابو جبل
كانت التقارير التي حملها الشهيد عزات أبو جبل تحمل معلومات دقيقة عن مراكز التموين الإسرائيلية، ومواقع الدبابات، ومرابض المدفعية الإسرائيلية في الجبهة، وعن مواقع القيادات العسكرية، وأماكن انتشار قواعد الصواريخ الإسرائيلية، على طول خطوط الجبهة السورية في الجولان، وخطوط الجبهة المصرية في شبه جزيرة سيناء. وشملت التقارير أسماء 18 عنصرا ونصيراً من أعضاء شبكات المقاومة في الجولان المحتل، إضافة إلى بعض أسماء مسؤولي وقادة الخلايا الوطنية الأخرى، التي نشطت إلى جانب خلية الشهيد عزات أبو جبل، واقتراحا عاجلا إلى القيادة يقضي بوقف عمل المقاومة السورية في الجولان لفترة ثلاثة أشهر، من أجل إعادة التنظيم، وتعديل أسلوب والية العمل، بتفكير وطرق جديدة تراعى قواعد العمل السري، ورقابة أجهزة الأمن الإسرائيلية.
كل الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في البريد الذي حمله الشهيد، والذين كانوا موزعين في أماكن عملهم في قناة السويس، وخليج ايلات، والمطار في “غيفريت”، والميناء، وحتى الجولان ومرصد جبل الشيخ، تم القبض عليهم واعتقالهم.وقد ضمت من مجموعة الشهيد: والده شكيب أبو جبل، شقيقه يوسف أبو جبل، فندي أبو جبل، حسين أبو جبل،المرحوم نجيب محمود، فايز نعمان أبو جبل، فوزي أبو جبل،المرحوم فارس محمود، عارف أبو جبل، عادل حسين أبو جبل، نصار العجمي، محمد سماره،احمد خاطر، وماجد العجمي. واديب الحلبي وجميع هؤلاء العناصر كانوا يعملون تحت قيادة والد الشهيد، شكيب أبو جبل، الذي كان قد انضم للعمل رسميا في الأجهزة الأمنية السورية منذ العام 1953.
أما باقي أعضاء مجموعات العمل الوطني في خلايا المقاومة الوطنية السورية ، التي تم الكشف عنها واعتقالها ضمن تداعيات استشهاد عزات أبو جبل، فشملت :
مجموعة المناضل المرحوم يوسف شبلي الشاعر، وضمت كل من: فؤاد الشاعر، سليمان شمس، حسين الشاعر، المرحوم هايل الشاعر، محمود حسن الصفدي، هاني شمس، حمود مرعي، سليم مرعي .
المجموعة الثالثة وضمت كل من:
اسعد محمد الصفدي، هايل حسين أبو جبل، احمد القضماني، فارس الصفدي، إبراهيم نصر الله، محمد مرعي، عبدالله القيش، صلاح فرحات،اسعد عبد الولي، رفيق الحلبي، حمد القيش، جميل البطحيش، وسليمان البطحيش. فايز علي الصفدي. خطار زهوة ، المرحوم أبو خزاعي محمود ملي، أبو عدنان محمود الصفدي، صالح مداح ، فايز حمود الصفدي ،سعيد احمد المقت، المرحوم سلمان صالح الصفدي.
المجموعة الرابعة وضمت كل من: يوسف شمس، عصام الصفدي، حسين الصفدي.
ومجموعةاخرى ضمت كل من حسن محمود عماشة، حمود هايل عماشة، فارس سعيد عماشة، هايل محمود أبو صالح، عدنان كنج ابو صالح، وفايز الحلبي .
هذا إضافة إلى عشرات المناضلين، الذين تم اعتقالهم ومحاكمتهم ضمن تداعيات حملة الاعتقالات التعسفية التي طالت خيرة أبناء الجولان.
كان عمل المقاومة في الخلية التي انتمى إليها الشهيد عزات أبو جبل يتمحور في عدة أمكنة ومناطق في الجولان المحتل وخارجه ، فقد أوكلت المهام إلى ثلاثة عناصر للعمل في مرصد جبل الشيخ لطيلة ثلاث سنوات، وأربعة عناصر بينهم الشهيد عزات عملوا في الخطوط الدفاعية الإسرائيلية على قناة السويس وخط بارليف، وثلاثة عناصر عملوا سائقين لنقل العمال الذين يعملون في التحصينات العسكرية، حيث استطاع احد رجال المقاومة “فايز على الصفدي “ أن يحتل مركزا مسئولا عن دخول العمال المدنيين إلى المراكز الأكثر سرية وأمنية قي شبه جزيرة سيناء، وعمل المرحوم نجيب محمود عامل تنظيفات في مقر الحاكم العسكري في القنيطرة، وشقيقه المرحوم فارس محمود عمل عامل تنظيفات أيضا في الشوارع المحيطة بمقر الحاكمية العسكرية، حيث تمكن من نيل ثقة الضباط والجنود الإسرائيليين كغطاء لعمله السري، وعمل الشهيد عزات ومعه شقيقه يوسف أبو جبل في خليج ايلات أيضا، وعمل خمسة عناصر آخرين في مراقبة التحصينات العسكرية والدفاعية وقدراتها القتالية، وعدد جنودها ونوعية سلاحها، وكلف اثنان آخران في جمع الصحف العبرية والعربية التي تطبع وتصدر في إسرائيل، واحدهم كان يلبس اللباس العسكري الإسرائيلي، كي يتمكن من شراء المجلات العسكرية “بمحني” التي توزع على الجنود الإسرائيليين، وكانت ترسل الصحف يوميا إلى الأجهزة الأمنية السورية، إضافة إلى الصور والخرائط العسكرية والسياحية.
في هذه الأثناء كانت خلايا المقاومة السورية في الجولان المحتل، ترصد وتراقب حركة المطارات والمواقع العسكرية الإسرائيلية في صحراء النقب، والمفاعل الذري في ديمونا، والمصانع والمباني والمنشأت الحكومية الإسرائيلية، وتنقل معلومات دقيقة جدا عن البناء الداخلي والخارجي لمرصد جبل الشيخ، ومرصد تل الشيخة جنوبي بقعاثا، ومرصد تل أبو الندى غربي القنيطرة، ومرصد تل الفرس في القطاع الجنوبي، ومهامها في الرصد والإرسال والاتصال الموجه ضد سوريا ومصر، وتقديم معلومات تفصيلية عن سير عمليات البناء في المستعمرات المقامة على انقاض القرى السورية المدمرة.
وفي عملية غاية في الأهمية والسرية تمكن رجال المقاومة من الدخول إلى مقر القيادة العسكرية السورية السابق في القنيطرة، الذي استولت عليه قوات الاحتلال بكل محتوياته وملفاته وأسراره الأمنية والعسكرية بعد عدوان 1967. كانت العملية بقيادة المرحوم المناضل نجيب محمود، وتمكن رجال المقاومة خلالها من تهريب نصف المحتويات وإعادتها إلى أجهزة الأمن السورية، بينما أتلف النصف الآخر الذي لم يتمكنوا من تهريبه.
كانت شبكات المقاومة ترسل معلوماتها إلى القيادة قبل أي عدوان أو تحرك إسرائيلي في غضون 12إلى 24 ساعة على الأقل، ليكون هناك استعداد كاف للمواجهة وتجنب الأضرار وإفشال العملية الإسرائيلية. ولعل أهمها حصل في 2 نيسان 1972، حين خططت إسرائيل هجوما مدفعيا واسعا على سوريا ومهاجمة مواقع الفدائيين الفلسطينين، خاصة في منطقة العرقوب اللبنانية، إلا ان تقارير ومعلومات المقاومة الدقيقة جعلت القوات السورية تستبق العملية الإسرائيلية، وتقوم بقصف المواقع ومرابض المدفعية الإسرائيلية قصفاً عنيفاً ومركزاً، أحرق الأرض تحت أقدام قوات الاحتلال، وأحدث خسائر هائلة بالأرواح والمعدات الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى إلغاء العدوان الإسرائيلي المخطط له.
لقد قدمت المقاومة الوطنية في الجولان المحتل، بعد الاحتلال مباشرة، معلومات تغطى حوالي 60 بالمائة من المواقع العسكرية في فلسطين المحتلة، و80 بالمائة في الجولان المحتل وشبه جزيرة سيناء المصرية.
ولد الشهيد الخالد عزات شكيب أبو جبل في 7 آذار1951 في بلدة مجدل شمس، وأكمل دراسته الابتدائية فيها. ومباشرة بعد انتهاء العمليات الحربية في الجبهة توجه قاطعاً خط وقف إطلاق النار، لمقابلة ضباط في فرع قيادة الجبهة السورية، ومن ثم التقى والده في دمشق، في محاوله لترتيب عودته إلى الجولان المحتل. فأسرة الشهيد تشتت أسوة بباقي الأسر الجولانية بعد الحرب، فاضطر والده للبقاء في دمشق حتى العام 1968، وبقى هو مع باقي أفراد الأسرة داخل الأرض المحتلة. لقد كان للشهيد دورا فاعلا في تهيئة الأجواء لعودة والده إلى الجولان، حيث يستذكر يوسف شقيقه:
“نتيجة الأوضاع التي فرزتها سيطرة الاحتلال على الجولان كله، اضطر والدي للبقاء داخل الوطن، في الوقت الذي عملنا أنا وعزات على التمهيد لعودته بأقل الإضرار. ذهبت والتقينا والدي وأخبرناه إننا علمنا من مصادر مختلفة بأنه في حال عودته فان فترة اعتقاله لن تتجاوز الأشهر، وفضلنا أن يعود إلى البلدة. كنت في هذه الأثناء قد بدأت انا والشهيد عزات العمل داخل صفوف المقاومة، ولم يكن الوالد يعلم ذلك بعد، ولم يكن من الممكن أن يوافق على طلبنا بالعودة دون استشارة أو موافقة قيادة فرع الجبهة، حيث اخضع لعدة تدريبات ودورات أمنية، وعاد إلى الجولان في العام 1968، بعد موافقة قيادة الجبهة على ذلك.
ومباشرة تم اعتقاله والتحقيق معه في عكا والجلمة والجاعونه (روش- بينا)، وأخضع للاستجواب في جهاز كشف الكذب الذي تدرب عليه سابقا في الوطن، وفقط بعد ان أوهم محققيه بأنه لم يكن سوى موظفا صغيرا ينفذ ما يطلب منه، وانه عاد من اجل زوجته وأولاده وبساتينه، ويريد العيش بهدوء مع أسرته في منزله، أفرج عنه بعد ثلاثة أشهر ونصف من الاعتقال، فقد كان معروفا لدى قادة الأمن الإسرائيليين لدوره في ملاحقة العملاء قبل حرب 1967.
واستطاع والدي في هذه الأثناء وبمجهودات مميزة من إبعاد الشكوك عنه. وبدأ في تجنيد عدد من الشباب، بأسماء مستعارة، للعمل ضمن خلايا المقاومة. في هذا الوقت كان الشهيد عزات قد انخرط كليا في عمل المقاومة، وكان عطاءه نموذجي جدا، لم يعرف التعب او الخوف مطلقا، وتميز بقدرات جسدية نادرة، وتمتع بجسم قوي جدا. ولقد كانت معظم عمليات إيصال البريد، وتسليم التقارير، واجتياز شبكة الأمن الإسرائيلي على خط وقف إطلاق النار، تتم عن طريقه فقط.
لقد كان لشخصيته المميزة وحماسه المندفع للواجب الوطني الدور الأكبر في ترتيب محاولة اختطاف الحاكم العسكري لمجدل شمس “يهودا الباشان”، وهو يهودي من أصل عراقي، حيث اعتاد على إجراء زيارات دورية لبعض الشخصيات المحلية، التي ترتبط بعلاقة قرابة عائلية من ناحية والدة الشهيد، وهناك استطاع شخص مقرب من الحاكم العسكري إقناعه بضرورة زياره شكيب ابو جبل شخصيا في بيته، وتلبية دعوته للحاكم إلى عشاء ومشروب فاخر، بعد ان حصل عزات على موافقة والده، وفرع قيادة الجبهة السورية ، لكن محاولة الاختطاف فشلت في اللحظات الأخيرة من تنفيذها”،
لقد شكل الاندفاع الوطني للشهيد اعزات أبو جبل احد ركائز النجاحات التي حققتها المقاومة السورية في الجولان . فقد اعتاد على القول إن احد أسباب الهزيمة العربية في حرب حزيران هو نقص المعلومات عن العدو، وقد كان حماسه الزائد، وإعجابه بالعمل الفدائي الفلسطيني، وراء انخراطه في العمل مع الثورة الفلسطينية، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني ” فتح” من خلال مجموعة الشهيد “الأخضر العربي“.
حيث استطاع الشهيد ورفاقه احمد خاطر ويوسف ابو جبل، وماجد العجمي واديب الحلبي بحكم عملهم في المقاومة، من تزويد الثورة الفلسطينية بمعلومات قيمة عن المراكز العسكرية الإسرائيلية في الجولان ومزارع شبعا، ومعلومات دقيقة عن سير العمل في بناء المستوطنات استعدادا لمهاجمتها وتدمير ما يبنيه الاسرائيبليون، وقد زودتهم الثورة الفلسطينية بكاميرا من صنع ياباني تصور على بعد 5 أمتار حتى بعد 15 كلم، ومسدس، واستطاعوا من إرسال ثلاثة رسائل ملغومة وضعت في بريد كريات شمونة. اثنتان منها إلى هنري كيسنجر وروجرز وزير الخارجية الامريكي، وقد تم اكتشافها قبل تفجرها، اما الرسالة الثالثة فكانت إلى طبيب عميد في الجيش الإسرائيلي، أرسلت إليه من منطقة نابلس، وكان هذا متورطا في قتل عدد من الأسرى المصريين، وهو يهودي متطرف، انفجرت الرسالة في يد ابنته أثناء استلامها وفقدت بصرها.
بالإضافة إلى عمل المقاومة السورية، كان على الشهيد عيش حياته كأي مواطن والعمل والكد من اجل تأمين لقمة عيش كريمة.. أحب السباحة ورياضة رفع الأثقال، وعشق جولات صيد الطيور. كان وقع هزيمة 1967 قاسياً عليه، وبقي كابوس تقهقر الجيوش عربية بأكملها وفشلها في الدفاع عن أرضها وشعبها يضايقه دوماً. والأشد الما بالنسبة إليه كان تسليم العرب بذهنية تفوق إسرائيل عسكريا وسياسيا، الأمر الذي اعتبره منافيا للحقيقة والواقع الذي عرفه وعاشه خلال السنوات التي سبقت استشهاده وتلت هزيمة حزيران عام 1967. لكنه لم يخطر بباله أن يكون سقوطه شهيدا ناتجا عن سقوط قيم الإنسان الأخلاقية والإنسانية. وبعد استشهاده وانتهاء حرب تشرين في العام 1973، منحت المخابرات المصرية وساما من الدرجة الأولى لخلايا المقاومة السورية في الجولان، لدورها في تقديم المعلومات الدقيقة عن الدفاعات الإسرائيلية في شبة جزيرة سيناء وخط بارليف. استلمها نيابة العماد حكمت الشهابي، رئيس هيئة الأركان السورية.
أما الحكومة السورية انذاك فكرمت الشهيد بتسمية شارع على اسمه في مدينة جرمانا، وكرمته الثورة الفلسطينية بإحياء جنازة رمزية في مخيم اليرموك قرب دمشق شارك فيها الآف المواطنين، وأطلق اسمه على احد شوارع المخيم. في المقابل اصدرت السلطات الإسرائيلية أحكاما قاسية على رفاقه في المقاومة، ومن بينهم والده لمدة 30 عاما، وشقيقه يوسف 15 عاما، بينما استطاعت شقيقته كاميليا، التي كانت عضوة في حركة المقاومة، عبور خط وقف إطلاق النار والهروب إلى داخل الوطن، بعد كشف عملها مع فرع قيادة الجبهة. أما والدته فقد تقدمت بطلب جمع شمل مع ابنتها داخل الوطن، لتغادر الجولان نهائيا مع ابنتها الأخرى، حاملة أحزانها وذكرياتها وصلواتا بان تجد كل تلك التضحيات مكانا لها تحت شمس الحرية.
استشهد عزات أبو جبل، وما زال الجولانيون يحملون ذكريات مؤلمة عن تلك الفترة، وما تلاها من كذب وزيف الشعار والخطاب الرسمي العربي، عن القتال واسترداد الحقوق المغتصبة في فلسطين، ولكن ذكريات أخرى ما زالت تومض نورا عن تلك الفترة، التي امتلك فيها الجولانيون قرار المواجهة الشعبية، رفضا للاحتلال ومشاريعه في سلخهم عن انتمائهم وتبديل هويتهم.
أثناء مؤتمر مدريد وما تلاه من سنوات ، علت في أحلام المواطنين أمال كبيرة في معانقة الوطن من جديد، عكست ذاتها على المجتمع الجولاني، في معادلات استنهاض روح الصمود وتعزيز المقاومة والتشبث بالأرض والدفاع عن الهوية الوطنية، فتنوعت واختلفت القوى المحلية بين الحزبية والطاعة العمياء، وخلط ركائز الانتماء الوطني بالميول الحزبي، وبين الموالاة المطلقة والانتماء الراسخ للوطن دون اعتبار أية من جهاته وأحزابه وقواه السياسية. وبين الانقسام والاتفاق كان الاحتلال يتسلل بخطى هادئة ولكن وقحة، بمنطق التقادم والتعايش والرفاهية الاقتصادية، دون أن يلفت الانتباه لهذا النخر الشديد في الهيكل العظمى للجولان أرضا وشعبا وهوية.
وحدهم بقوا شهداء الجولان، “الأحياء” والأموات، خميرة للذاكرة الوطنية وللأجيال القادمة، علهم يغفرون ذنوبنا وأخطاءنا، ويمدوننا بقوة الصمود والجرأة.