من التاريخ السوري: عبد الكريم الجندي.. الضابط الذي انتحر بخمس رصاصات في الرأس
رياض خالد: كلنا شركاء
19/01/2015
ينتمي العقيد عبد الكريم إلى عائلة الجندي المعروفة والتي أنجبت العديد من الشعراء والأدباء والسياسيين الذين لعبوا دورا بارزا في سورية خاصة خلال مرحلة الستينيات من القرن الماضي.
ولد في السلمية عام 1932 وتخرج من الكلية الحربية 1952, وهناك تعرف على صلاح جديد وربطتهما صداقة متينة، انتسب باكراً إلى حزب البعث، بحكم قرابته من الدكتور سامي الجندي أحد المؤسسين للحزب.
خلال الوحدة السورية –المصرية عام 1958م، تم إبعاده مع الكثير من ضباط الجيش السوري وخاصة البعثيين إلى مصر، وبمبادرة من محمد عمران تم تشكيل اللجنة العسكرية والتي ضمت في البداية خمسة ضباط (محمد عمران، صلاح جديد، عبد الكريم الجندي، حافظ الأسد، وأحمد المير).
شارك الجندي في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1962 وأودع السجن فترة ثم تم تسريحه مع حافظ الأسد وعدد من الضباط، وأحيلوا إلى وظائف مدنية.
التحالف مع صلاح جديد
عاد الجندي إلى صفوف الجيش بعد انقلاب الثامن من آذار 1963م، وتسلم وزارة الإصلاح الزراعي، ثم أصبح مسؤولاً عن قوى الأمن الداخلي في أيلول1967.
وكان عبد الكريم متحالفاً مع صديقه صلاح جديد، في شبكة التوازنات الحزبية التي كانت سائدة، وظل صلاح جديد مسيطراً على الأمن والمخابرات العامة بواسطة صديقه عبد الكريم، على الرغم من بدء تقلص نفوذه في الجيش، أمام تصاعد قوة ونفوذ حافظ الأسد.
كان الجندي من بين أعضاء لجنة التحقيق التي كشفت محاولة سليم حاطوم الانقلابية عام 1966 وألقي القبض على حاطوم وقام عبد الكريم الجندي بنفسه بتكسير أضلاع رفيق دربه السابق (سليم حاطوم) قبل إرساله ليطلق عليه النار وهو بين الحياة والموت.
النزاع بين حافظ الأسد وصلاح جديد
بعيد حركة شباط 1966 التي أزاحت ما يسمى القيادة القومية، تجمع معظم الضباط البعثيين، وقيادات الحزب إما حول صلاح جديد الأمين القطري المساعد لحزب البعث وإما حول حافظ الاسد وزير الدفاع.
وفي عام 1968 تصاعدت الخلافات بين جديد والأسد، وحينها استطاع صلاح جديد إيصال أنصاره إلى أغلب المواقع الإدارية في المؤسسات الحكومية والقيادات الحزبية في حين عين حافظ الأسد أنصاره في المواقع القيادية العسكرية الحساسة ونقل أنصار صلاح جديد العسكريين إلى مناصب أقل حساسية في الجيش، دون سابق تشاور مع المكتب العسكري الذي يسيطر عليه أنصار جديد.
وبينما نجح “الأسد” في فرض سيطرته على معظم القوات المسلحة السورية، فقد أحكم “جديد” قبضته على جهاز الحزب المدني بشغل أهم مراكز الحزب المدنية بمؤيديه، وبذلك بدأت تظهر ازدواجية السلطة.
التضييق على الجندي
انفجرت العداوة بين الأسد وصلاح جديد إلى صراع وتنافس في شباط سنة 1969م، وكان الجندي يدير الصراع مع صلاح جديد، مقابل حافظ الأسد وشقيقه رفعت الذي زعم أن (صلاح جديد) يخطط لاغتيال شقيقه (حافظ)، على أثر إيقاف سيارة كانت تحوم قرب منزل حافظ الأسد، واعترف سائقها بعد الاستجواب بأن الجندي أرسله لاغتياله، فقرر رفعت الأسد نزع سلاح عبد الكريم الجندي.
كان عبد الكريم الجندي آنذاك يشغل ثلاثة مناصب لم يسبقه إليها أحد في الاستخبارات السورية، عضواً في القيادة القطرية للحزب ومديراً مكتب الأمن القومي ومديراً للمخابرات العامة.
وفي الأيام الأربعة ما بين 25ـ 28 شباط 1969، قام الأخوان: حافظ ورفعت بانقلاب مصغر، فحركا الدبابات إلى النقاط الهامة في العاصمة، واستبدلا الضباط والمدراء الأمنيين الموالين لصلاح جديد بآخرين موالين لهما. لكن الحادثة الحاسمة كانت بقيام رفعت بتضييق الخناق على الجندي في دمشق، وذلك باعتقال سائقي سيارات الأمن الداخلي من محطة تزودهم بالوقود من مبنى الأركان، وهكذا تم التقاط سائقِي الجندي واحداً بعد الآخر، فحرم الجندي بذلك من أسطول سياراته.
انتحر أم نحر؟
في صباح الثاني من آذار 1969م، أعلن راديو دمشق، فجأة وعلى غير انتظار، نبأ انتحار العقيد عبدالكريم الجندي في مكتبه، بمقر الأمن القومي العام.. وهكذا طويت صفحة الازمة المشتعلة بين جناحي صلاح جديد وحافظ الأسد، ولو إلى حين.. حيث انشغل المتخاصمون بانتحار الجندي. فشارك جديد وزعين والأتاسي موكب جنازته في بلدة السلمية، في حين لم يحضر الأسد، ولكن وزارة الدفاع أرسلت إكليلاً من الزهور.
انتشرت رواية رسمية بعيد الإعلان عن انتحار الجندي، تفيد بأنه أدرك أن وقته حان، ونظراً لحدة مزاجه، وعصبيته لم يستطع الجندي أن يتحمل تبعات الموقف، فأقدم في ليلة 1ـ 2آذار 1969، وبعد مشادة كلامية بالهاتف مع مدير المخابرات العسكرية الموالي للأسد علي ظاظا، على إطلاق الرصاص على رأسه.
وترددت حينها اشاعات في شتى المحافل متسائلة باستغراب عما اذا انتحر الجندي حقاً أم أنه نحر برصاص خصومه.. وخصوصاً أنه حين تم نقل الجثة إلى المشفى الإيطالي تبين أن الإصابة كانت بعدة طلقات، والطبيب الايطالي الذي فحص عبد الكريم, قال: لايمكن ان يكون قد انتحر, فلم تهتز يد مطلق النار أبداً, والمنتحر لابد أن ترتجف يده, برد فعل عصبي سببه موقع اليد من الصدغ، وقالت روايات أن الجندي فارق الحياة بخمس رصاصات في الصدغ.
وقالت روايات أخرى أنه تم اختطاف المجموعة المسؤولة عن الحراسة في مكتب الجندي، قبل حدوث عملية الانتحار المزعومة، في حين رجحت روايات عديدة قيام رفعت الأسد بمطاردة العقيد عبد الكريم الجندي، وقتلته أو دفعته، للانتحار عند بوابة اللواء السبعين.
وظهرت رواية حول انتحار الجندي تقول أن “خرج من ربّاه عبد الكريم من الغرفة “السوداء” وفيها آلات التسجيل والتصوير, (لم يكن يأمن لأحد ولم يسمح بدخول تلك الغرفة إلا من رباه) وكان بيده مسدس عبد الكريم الذي كان يتركه في درج مكتبه, وأطلق النار على رأس عبد الكريم. وأُعلن أن عبد الكريم قد انتحر.
وصية الجندي
بعد يومين اثنين من انتحار عبد الكريم الجندي، نشرت صحيفة «النهار» البيروتية ما أسمته «وصية عبد الكريم الجندي» وقد كتبها لتنشر بعد وفاته.. ولم تكن تلك الوصية تتحدث عن شؤون شخصية كما هي حال الوصايا التي يكتبها الاشخاص لتطبق بعد أن تدركهم الوفاة إنما كانت وصية سياسية، وكانت تتناول أموراً تتصل بالأزمة والصراع اللذين نشآ بين جناحي صلاح جديد وحافظ الأسد، وأخطر ما ورد في الوصية دعوة الجندي رفاقه إلى الحذر من ارتباط حافظ الاسد بالمخططات الأميركية التي ستقود سوريا إلى الارتباط بل الانقياد إلى تنفيذ تلك المخططات الضارة بالمصالح السورية.
المهم في وصية عبد الكريم الجندي، وهو رئيس أهم جهاز أمني، والذي فكّ خيوط شبكات غربية كثيرة عاملة في سورية وكشف العديد من الأسرار، واطلع على المعلومات الدقيقة … أنه يتهم حافظ الأسد صراحة بالخيانة.
في مقطع من الوصية يقول : ” إيماني بالثورة منعني من فضح الارتباطات وأعمال الخيانة والتجسس”.
وحول حافظ الأسد وما كان يقوم به عام 1969، قال في الوصية : ” حافظ الأسد مغرور، مرتبط، مشبوه، ينفذ بدقة مخططات الأعداء من كل الأصناف .”
وجاء نشر وصية الجندي في ذلك الجو السياسي المشحون بالإشاعات التي تتحدث عن نحر عبد الكريم الجندي وليس انتحاره، وبينما هدأت حدة الازمة بين جناحي جديد والأسد فقد بادرت السلطات السورية إلى اعتقال الشاعر علي الجندي ابن عم عبدالكريم عند عودته من بيروت بعد رحلة عادية له في زيارة العاصمة اللبنانية، كما كان من عادته أن يفعل باستمرار.. وقد اتهم بانه الذي أوصل وصية عبدالكريم الجندي إلى جريدة «النهار» علماً بأن علي الجندي ذو مزاج بوهيمي وهو بعيد تماماً عن ابن عمه عبدالكريم بل إنه يعتبر على النقيض من اتجاه ومسلك عبدالكريم الجندي البوليسي النزعة .
يبقى الملفت في الأمر أنه بعد نشر وصية الجندي بيومين أعلن أيضاً عن انتحار زوجته في ظروف غامضة.