سليمان فهد الصفدي.. حكاية من شريط الذاكرة الجولانية
عشتار نيوز للاعلام / شخصيات جولانية
/ ايمن ابو جبل .
.من الارشيف 19/12/2010
وجوه وأعلام جولانية هي ليست كتابة لتضخيم شخوص المجتمع الجولاني ماضياً وحاضراً ، وليست تعويضاً عن نقص نستشعر فيه ونتحسسه، وليست حالة من عدم استيعاب التطورات والأحداث الجولانية ، فإننا إن “نفخنا” ليلا نهارا في إبراز الحالة الجولانية فان ذلك بسبب حالات الاختزال والاختصار التي يتعرض لها تاريخ هذه البقعة الجغرافية من الوطن السوري، وسيرة أحراره الذاتية بالإهمال والتهميش واحياناً التشويه..هذه الزاوية التي نقوم “بتغذيتها “عبر قصص وحكايات من الماضي فهي ضرورة يتطلبها الوجدان والامانة، لتبقى حيه في ذاكرة الأجيال..
كانت المرة الأولى التي سمعت بها باسمه سليمان فهد الصفدي في بداية العام 1983، حيث تصادف وجود صديق لنا من قرية عين قنية اسمه لؤي عارف عزام أثناء الدراسة في ثانوية مسعدة، حيث نال موافقة السلطات الإسرائيلية بجمع شمل عائلته مع والده الذي اجتاز خط وقف إطلاق النار قبل عام او أكثر متوجهاً إلى الشام، برفقة سليمان فهد الصفدي الذي تعيش عائلته في المنزل المجاور مباشرة للمدرسة الثانوية في مسعدة…
ولاننا كنا متحمسين ومتعطشين في تلك الفترة للانخراط في أي عمل ضد المحتل، كطلبة نمارس بعضاً من النشاطات الطلابية ضمن إطار اتحاد طلبة الجولان” السري” الذي تصدي لرفع العلم الإسرائيلي فوق مبنى المدرسة، ورفض الوقوف دقيقة حداد على قتلى الجيش الإسرائيلي وضحايا النازية من اليهود، ورفض بوثيقة ومظاهرة طلابية قرار فصل المعلم القدير صالح شمس من بقعاثا آنذاك، وكأعضاء في تنظيم حركة المقاومة السورية التي كانت في طور التكوين والتأسيس ـ فقد شدتنا قصة هذا الرجل الجرئ الذي اجتاز خط وقف إطلاق النار، ونظرنا إليه دون معرفة بنوع من الفخر والاعتزاز….
المرة الثانية التي صادفت فيها اسم هذا الرجل كانت أثناء إعداد وأرشفة وثائق قوائم الأسرى والمعتقلين السورين منذ العام في سجون الاحتلال الاسرائيلي منذ العام 1967، ولم يكن اسم المناضل سليمان فهد مشمولاً فيها بسبب نقص المعلومات، وتأكل ذاكرة البعض من رفاقنا من مناضلي الرعيل الأول …
سليمان فهد الصفدي ليس شخصا استثنائيا، وليس شخصا خارقاً،لكنه شخصاً يستحق ان تتعرف عليه الأجيال ويستحق ان نتذكره في شريط الذاكرة الجولانية لانه محسوباً على محطة هامة من محطات السفر الوطني والنضالي لأبناء الجولان،الذي يتقاسمه معه الالاف من الجولانيين، تلك المحطة التي لا تزال يكتنفها الغموض والتعتيم لدى العديد من أبناء شعبنا…
سليمان فهد الصفدي من مواليد العام1953 في بلدة مجدل شمس، بعد مضى سنوات طويلة على مغادرته الجولان المحتل كان يؤمن كما يقول “بان العمل النضالي وان كان صغيراً، فيجب فعله، لانه في ذات اللحظة يجب ان تكون واثقاً ان هناك اخرون مثلك يفعلون الأمر ذاته ، وعملك سيضاف الى عملهم لتكبر كرة الثلج، حتى تحقق ما تعتقد انه الصواب …”
لقد كان دخول الجيش الاسرائيلي الى الجولان المحتل، بمثابة صدمة عنيفة هزتنا من أعماقنا، كان الأمر في البداية غير محتمل، لأنه كان من المستحيل ان تصدق ان ارضك اصبحت اليوم محتلة، وانك منذ الان اسيراً لرغبات الغزاة الذين لم يفاجئوننا في تصرفاتهم وسلوكياتهم مع ابناء الجولان، كنا نسمع عن عمليات التنكيل واقتلاع المواطنين من بيوتهم ومنازلهم، وفيما بعد تدمير بيوتهم ومسح قراهم التي تحمل تاريخاً وتراثًاً وحضارةً نعتز بها … ومع التسليم بالحقيقة المرة والمؤلمة،كانت الفكرة تتبلور للنهوض والتصدي وتجاوز هذا الشعور المخيف والمرعب من المذلة التي أصابتنا في حزيران عام 1967، خاصة وان وقع احتلال الجولان عليّ كان كصدمة قوية لم افهمها اثناء تواجدي في لبنان حينذاك”
حين التقيت مع المناضل سليمان فهد في عمان على شرف الحفل الفني الذي اقامه الفنان سميح شقير،للعائلات الجولانية المشتتة بين الارض المحتلة وبين الوطن الام سوريا ، كان يقف هناك يتأمل ويتفحص الوجوه القادمة من الارض المحتلة، وفي عينيه هذا الشوق وذاك الدفء الذي احتضننا به دون سابق معرفة شخصية به، كان يتطلع الينا وفي عينيه دمعة، فها هنا الجيل الثاني من ابناء الجولان بعد الاحتلال، وقد كبر وترعرع دون ان يلامس الحلم الذي من اجله بذل أحرار الجولان الكثير الكثير من التضحيات التي لا تزال مجهولة في وعينا وادراكنا ، الا انه لا يزال مقتنعاً بعد مضى اكثر من 43 عاما من الاحتلال ان أولئك الراحلين لا يزالوا يمارسون الحياة ويفعلون بها أكثر من الأحياء
اثناء حرب حزيران عام 1967 لم يتجاوز سليمان فهد الصفدي الرابعة عشرة من عمره، ضمن عائلة مكونة من اربعة اشقاء وشقيقة واحدة، ولجأ بعد وفاة والده قبل الحرب بعام واحد الى أخواله في لبنان، ليتمكن من إيجاد عمل ، وتركته الحرب يعيش أهوالها وتناقضاتها وأوجاعها وهو بعيدا عن أهله ورفاقه، ولم يتمكن من العودة الى الجولان المحتل الا في في نهاية العام 1970 متسللاً عبر بلدة حاصبيا.
في غضون الثلاث سنوات التي كان بها في لبنان التحق الى “قوات الصاعقة ” طلائع حرب التحرير الشعبية وهي منظمة فلسطينة قومية، مولها حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا بعد عام واحد من انطلاقة الرصاصات الأولى للثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، وتشكيل منظمة فدائية خاصة بحزب البعث العربي الاشتراكي.
وبتاريخ 15/4/1967 وجه تعميم من شعبة فلسطين لحزب البعث، يدعو لالتحاق البعثيين الفلسطينيين والسورين بدورة تدريبية لتشكيل منظمة فدائية بدءاً من صباح 1/5/1967 تسمى منظمة الطلائع وشعارها «الجمجمة» وتتخذ قيادتها العسكرية من بساتين كفر سوسة والتي تقع إلى الجنوب من دمشق مقرا لها. وذلك التزاماً بمقررات المؤتمر القومي التاسع لحزب البعث في سوريا عام 1966، وقد اطلق عليها اسم طلائع حرب التحرير الشعبية آنذاك الوزير السوري مروان حبش عضو القيادة القطرية للحزب، بينما أسماها الشهيد صلاح خلف(أبو إياد) «منظمة الصاعقة» مما حدا بالبعض للاحتجاج لأن اسم الصاعقة تمت استعارته من اسم منظمة البالماخ الصهيونية، فكان جواب الشهيد صلاح خلف بأن العاصفة تحمل أيضاً اسم الوحدات الخاصة النازية.
وقد انهى المناضل سليمان فهد الصفدي دورات تدريبة عسكرية لقوات الصاعقة في مخيم عين الحلوة في لبنان و منطقة “عسكر” ومعضمية الشام قرب مطار المزة العسكري. وساهم في عدة عمليات من نقل الذخائر والعتاد إلى جنوب لبنان عبر جبل الشيخ وطرقه الوعرة، وبقى في معسكرات الصاعقة حتى العام 1970، حيث اعتقله الأمن اللبناني لأسباب سياسية وسرعان ما تم الإفراج عنه ليبدأ محطة جديدة من حياته، في الإعداد والتخطيط لدخول الأرض المحتلة..
ويصف سليمان فهد طريق عودته الى الجولان قائلاً” عند وصولي جبل الروس في مزارع شبعا كان هناك عمال يعملون من مجدل شمس وتعرفت إلى احد العمال وهو المرحوم اسعد يوسف عواد وعندها عرفت إنني اقتربت من بلدة مجدل شمس،قدمو لي الطعام ورحبو بحضوري، وما هي الا لحظات حتى وصلت قوات الجيش الاسرائيلي وطوقت المنطقة وتم اعتقالي، ولفوني ببطانيه ..لا اعرف الفترة الزمنية التي بقيتها معهم بالجبل ملفوفا ومربوطا حيث شعرت بجنود يحملونني الى سيارة . لقد كان الطقس بارداً جداً انذاك، وبعد سفر طويل توقفت السياره وانزلوني وفكوا رباطي ,عندما رايت المكان عرفت اني داخل معسكر، لكنني لم اتعرف الى موقعه بالضبط؟ بقيت هناك يومين او اكثر وبعدها نقلوني الى صفد.
وبدء التحقيق معي لمده ثلاثه ايام ليلا نهارا ، وفي اليوم الرابع اتى جنود بلباسهم العسكري، ومعهم جندي برتبه ضابط ، واخذوني الى منطقة حرجية في مخارج صفد، انزلوني من السيارة بعد ربط ارجلي ويداي مع بعضهم البعض بسلاسل حديدية، وسحبوني الى مبنى ومنه الى غرفة محكمة الاغلاق، وبقيت على هذا المنوال عدة ساعات حتى اتى جنود اخرين، وانهالوا علي بالضرب المبرح على كافة انحاء جسدي، واغمى علي عدة مرات ، لم اكن استفيق الا بعد سكب المياه الباردة عليّ.
بعد عدة جولات من الضرب والتعذيب، ادخلوا الى الزنزانة شيخ بالزي الديني يحمل معه ملابس وبطانية واغطية، وبقيت في تلك الزنزانة مدة عشرين يوماً دون ان استطع الاستحمام او تنظيف الاوساخ التي تراكمت عليّ نتيجة الجروح والدماء التي بقيت على جسدي اثر جولات الضرب، عدا عن ان الأوساخ والروائح الكريهة كانت مليئة في انحاء الغرفة كلها.\
عند انتهاء التحقيق تم نقلي الى روش بينا، وهنا عرفت انني في مركز الشرطه، وتعرفت هناك على” الأخ فؤاد الشاعر” حيث كان يتحدث اليّ عبر فتحة باب الحديد واخبرني انني موجود في الجاعونة ، وانه سيبلغ أقاربي وأهلي بوجودي في السجن ، في مركز الشرطه لم يقوموا بضربي او اهانتي،
بعد ذلك انتقلت الى سجن الجلمه, وبعدها الى بيت ليد _كفر يونا_ حيث بقيت هناك عام كامل كمعتقل اداري . وبعدها حاكموني على اساس اتهامي بالتسلل الى اسرائيل والتخطيط للقيام باعمال تخريبية تمس الامن الاسرائيلي، من جهتي اعلنت رفضي للتهم الموجهة وقلت ” انني مواطن أتوق الى العيش بين اهلي وعدت الى بلدي بعد ان ضاقت بي الحياة في لبنان “، الا انهم اصدروا حكماً عليّ بالسجن لمدة عامين، وافرجوا عني بعد انتهاء المحكومية في أواخر العام 1972 .
ويقول احد اصدقاء سليمان فهد الصفدي القدامى الذي فضل عدم ذكر اسمه” اذكر انه كان رجلا شجاعاً لكنه غامضاً، تميز بالطيبة وحبه للأخر، لقد استطاع سليمان فهد الصفدي من التأقلم والعيش مع اقاربه وتأسيس عائلة في قرية مسعدة،في العام 1978 ، بعد ان مر عليه الكثير الكثير من الصعاب والتحديات، رافقها الامتثال في الحاكمية العسكرية لاثبات الوجود، الا ان هاجسه كان على الدوام العمل في صفوف المقاومة الوطنية، والتنسيق مع الاجهزة الامنية السورية في الوطن الام سوريا،لتقديم كل شئ من شأنه المساعدة في انهاء الاحتلال وتقليص معاناة الأهل في الجولان المحتل ، هذا الرجل لديه الكثير من الصفات الطيبة والرائعة التي تميز بها رجال تلك المرحلة، لم يعتاد طيلة الفترة التي عرفته فيها الا يكون كبرياءه عالياً فوق كل شئ..”
في سنوات السبعينيات من القرن الماضي كانت المقاومة الوطنية السورية في الجولان، تحصد المزيد والمزيد من الانجازات والنجاحات في رص الصفوف وتوجيه ضربات موجعة لاجهزة الاستخبارات الاسرائيلية، بعد ان استطاعت من اطلاق العمل ألاستخباري والمعلوماتي الكبير الذي كان له الفضل في عبور واقتحام القوات السورية والمصرية لجبهة الجولان، وجبهة سيناء وتحطيم خط الون وخط بارليف في بدايات حرب تشرين عام 1973 ” وإسقاط أسطورة الجيش الذي لا يقهر ” .
في هذه الأثناء كان سليمان فهد الصفدي قد اختار طريقه وأساليبه في تأدية واجبه الوطني حتى أواخر العام 1982 حيث استشعر الأمن الإسرائيلي بوجوده ورفاقه بعد ان عاش تجربة الإضراب والأحداث التي شهدتها الساحة الجولانية في معركة البقاء والصمود والمواجهة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فقرر ترك كل شئ، وعبور خط وقف إطلاق النار بالقرب من بلدة مجدل شمس، برفقة زميله عارف عزام من قرية عين قنية، وذلك تاريخ 27-11-1982 متوجهاً الى الجزء الاخر من الجولان،عبر طريق “اللباطة” في جبل الشيخ من الأراضي المملوكة للسيد سليم خليل، طلباً للحماية والأمن من وطنه الذي قدم من اجله الغالي والنفيس، حيث استغرقت عملية العبور كما يستحضرها ابو جودت سليمان الصفدي قرابة الأربع ساعات حتى بلغ منطقة “عين المحترقة” بعيداً عن العيون الإسرائيلية، واستلمته قوات الأمن الوطني السوري ، ليبدأمحطة جديدة من حياته ، والعمل على جمع عائلته في اطار جمع شمل العائلات …
سليمان فهد الصفدي، لا يزال يعيش هناك داخل الوطن الذي عشقه وأحبه، مع زوجته وأبناءه الأربعة”جودت وجلال وسوزان وسليمه ” رجلاً أنهكته سنوات النضال وسنوات النسيان على حد سواء، ولا يزال يراوده الحلم بعناق الارض التي أُجبر على تركها، تجنباً للسجن والاعتقال، ولا يزال ينشد امنيته الاخيره بملامسة هذا الحلم وقد أُنصف اولئك الذين حملوا ارواحهم ذات يوم صوناً للوطن المتبقي فينا …