من الذاكرة الوطنية.. شعب اعزل في مواجهة إرهاب دولة
عشتار نيوز للاعلام والسياحة/ من الذاكرة الجولانية- انتفاضة شباط
إعداد ايمن ابو جبل
لم يتحرر الجولان بعد. ولا تزال لعنة الاحتلال تلاحقنا. وما زالت تكبر أحلامنا وأمالنا. لكنها تتعثر تحت وطأة هذه الانكسارات العربية المعنوية والسياسية، وطبعاً، العسكرية. منذ أيام الإضراب الكبير في الجولان والأحوال قد تغيرت كثيراً. جيل أخر جديد كبر وترعرع، وما زال الوطن محفوراً في الصدور.. لكنها ملامسته ما زالت بعيدة… ولا زالت تبتعد اكثر في ظل المقتلة السورية التي فرضها النظام الحاكم على ابناء الشعب السوري قبل ما يزيد عن الثمان سنوات.
في هذا الأسطر نسلط الأضواء على ماض كان وما زال مضيئاً، ينير ليالينا المظلمة، ويعيد لنا بعضاً من أجواء تلك المرحلة التي أورثتنا فكراً وعقيدة ودستوراً، قد نختلف أو نتفق حوله، ولكن القيم والأخلاق، وقوافل الأحرار ومعاناتهم، تمنعنا من نكرانه وتهميشه وركنه في زوايانا المظلمة، التي تفرضها المتغيرات والتطورات.
انه تاريخ حقبة لا بد من استحضارها في حواراتنا وخلافاتنا ونقاشنا الدائم حول المصلحة العامة لمجتمعنا، وأساليب الأداء والعمل والارتقاء، وتبنّي الأنسب والأفضل لحاضرنا ومستقبلنا، الذي من الضروري أن يرتكز على الأصيل من ماضي شعبنا، وقيم تلك الحقبة المريرة، التي مررنا بها في هذه البقعة العزيزة على قلوب كل الأحرار والشرفاء على امتداد هذا الوطن الجريح، رغم ما تواجهه من إهمال ونسيان وتغييب عن دائرة الوعي والإدراك الوطني والقومي.
لقد كانت لرواد الفعل النضالي المقاوم أدوار عدة في صنع مآثر الجولان الكفاحية، فمنهم أولئك الرواد الذين اعتقلتهم سلطات الاحتلال، وساهموا من داخل السجون في رفد قضية الجولان العادلة، بركائز ودعائم جديدة تضاف إلى تلك التي تعمدت بدماء الجولانيين في قراهم.
وقد كان للحركة الاعتقالية في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، ولأبناء الجولان المعتقلين خاصة، دور في تسليط الأضواء على قضية الجولان العادلة، رغم محدودية الإمكانيات وشحة المعلومات، الواردة إليهم من صفحات الجرائد العربية والعبرية، ورسائل الأهل والأصدقاء، وما حملته الزيارات النصف شهرية من معلومات وأخبار عن إضراب الأهل ومقاومتهم للسياسة الإسرائيلية القمعية، فكانوا يجمعون كل الأخبار والتقارير في دفاترهم لتكون شاهداً على تلك المرحلة، خاصة وإنهم أدركوا أهمية وضرورة أرشفة وتأريخ تلك الحقبة وفق تلك الإمكانيات المحددة والمحدودة داخل السجن.
هذه الحلقات، التي ننشرها لأول مرة، هي جزء من دراسة كان قد أعدها الأسير سليمان شمس في العام 1983 في معتقل جنين:
إضراب الجولان الجماهيري.. ملحمة الصمود
أعلنت الطليعة الوطنية، بعد تلمسها الاتجاه العام ومعرفتها الروح السائدة لدى الجماهير، إن أهالي الجولان المحتل سيعلنون الإضراب العام المفتوح بعد عشرة أيام، إذا لم تتراجع السلطات المحتلة عن قرارها بضم الجولان. اعترفت السلطة المحتلة بان الأمور بدأت تفلت من يدها، فبادرت إلى اعتقال المواطنين: الشيخ كمال كنج أبو صالح، والشيخ أبو عدنان محمود الصفدي، والشيخ سليمان كنج أبو صالح، والسيد كنج سليمان أبو صالح. ظن العدو أنه سيردع المواطنين بهذا العمل، ولكن الذي حدث هو أنه دفعهم للتعجيل بإعلان الإضراب مساء 13/2/1982، اعتباراً من صباح 14/2/1982 في قرى الجولان.
دخل المواطنون بمجابهة عنيفة ومكشوفة مع سلطات الاحتلال، ليؤكدوا بالبرهان الساطع والممارسة والتضحية، من خلال استغلال الإمكانيات المتوفرة لديهم، عروبة الأرض والسكان والحفاظ على الهوية الوطنية. فقد ورد في البيان الذي أصدروه بتاريخ 13/2/1982، وتضمن الإعلان عن قرار الإضراب ما يلي:
“وبذلك وجدنا أنفسنا أمام خيارين، لا أكثر: إما الوقوف في سبيل كرامتنا ومبادئنا، أو التراجع عنهما. نحن نرفض الذل والتخاذل. وبذلك اتخذنا قرارنا بالإضراب العام والمفتوح حتى نحقق مطالبنا”.
وتضمن البيان نداء لزملاء المعاناة والهدف من الفلسطينيين بالوقوف إلى جانبهم ودعم إضرابهم:
“إخوتنا في الكفاح.. يقع على عاتقكم اليوم الوقوف إلى جانبنا بكل ما لديكم من إمكانيات. وليعلم الجميع أنه وصلت الأمور إلى حالة لا تسمح لأحد بالوقوف متفرجاً أو محايداً، فواجبكم أن تقفوا معنا. نوجه بياننا هذا لتتحملوا مسؤوليتكم، ولن يسمح التاريخ لأحد بتبرير حياده”.
لقد أعلن الإضراب شاملاً وعاماً لكل مرافق الحياة، فالمحال التجارية أغلقت أبوابها ولم يخرج العمال إلى مراكز عملهم وامتنع الطلاب، وقسم من المعلمين، من الذهاب للمدارس، وتوقفت أعمال البناء والمشاريع، واتفق على إمكانية تحديد أيام معينة في المستقبل للعمل الجماعي في البساتين.
دفعت السلطة المحتلة بقوات كبيرة من الجيش وحرس الحدود والشرطة إلى قرى الجولان بحجة “الحفاظ على القانون والنظام”. لقد كانت كل قرية تبدو كمدينة أشباح مهجورة في فيلم لـ”هتشكوك”، والذي يفاجئ المرء من النظرة الأولى هو عدم وجود دلائل على الحياة. فالشوارع خالية من المارة ولا وجود لأصوات أطفال، ولا توجد حوانيت مفتوحة. ها نحن قد مررنا بالقرية كلها- قرية مسعدة. من زاوية معينة يكتشف المرء منظراً مخيفاً. فالقرية المتكئة على جانب الجبل المكسو بالثلج مغمورة بزغب الغيوم السوداء، التي تنذر بالسوء، وتبدو البيوت وكأنها تعرب عن التضامن التام مع أصحابها المضربين” (1).
ردود الفعل الإسرائيلية على الإضراب:
قامت السلطة، بعد إعلان الإضراب، باتخاذ العديد من الإجراءات الانتقامية. فقطعت خطوط الهاتف وقلصت كمية المياه المزودة للقرى وكذلك التيار الكهربائي، “وفقا لأنظمة الدفاع في حالة الطوارئ”، كما ادعت السلطة. ونشرت لجنة مستوطنات الجولان التي يرأسها “شمعون شيفس″، صاحب فكرة، “ضرب العمال العرب الدروز بشدة”، بيانا حذرت فيه الحكومة الإسرائيلية من “التحريض للعصيان المدني”، ناظرة لموقف المواطنين بخطورة كبيرة، وطالبت عدم تشغيل العمال من قرى الجولان، وتوجهت بدعوة لكافة المقاولين اليهود كي يحذو حذوها.
لم يقتصر هذا الموقف على مستوطنات الجولان، بل شمل المؤسسات والمعامل الاسرئيلية في الجليل. فقد دعت لطرد العمال من أماكن عملهم، وأرسلت لهم رسائل إقالة، بعد أن مضى على عمل الكثيرين منهم عشرة أعوام وأكثر من العمل الشاق، الذي تعتبره الأوساط الإسرائيلية نفسها “عملا اسوداً”. توجهت شركة “سوليل بونيه” إلى العمال العرب في الجليل كي يحلو مكان عمال الجولان المضربين، لكن هؤلاء العمال رفضوا طلب الشركة.(2)
وزير الطاقة الإسرائيلي “جدعون بات” طالب بمعاقبة العمال المتغيبين بشدة ولم يكن زميله الوزير “مردخاي تسيبوري” بأفضل منه، إلا من حيث “ديمقراطيته”، فقد هدد الأخير بعد إعلان الإضراب بثلاثة أيام تهديدا “ديمقراطيا”، جاء فيه، “بأنه بإمكان العرب في الجولان أن يضربوا ما شاءوا لهم أن يضربوا”، وأعرب عن تأييده باستعمال سياسة اليد الحديدة، فأضاف: “يجب أن نعالجهم بصورة متشددة ونسمح لكل من يعتبر نفسه سوريا بان يحزم أمتعته ويعبر الحدود إلى سوريا، والجولان بأيدينا ومن لا يرتاح لهذا يستطيع قطعا وبصورة ديمقراطية أن يرحل إلى سوريا)
لم تثن هذه الإجراءات عمال الجولان عن الاستمرار والصمود في موقفهم الوطني، ولم يخضعوا أو يستسلموا أمام اجراءات الاحتلال القمعية.
معلمو المدارس نالوا نصيبهم أيضا من إجراءات الاحتلال القمعية، أسوة بباقي المواطنين. فبعد توقف الدراسة وإضراب الطلاب وجزء من المعلمين، هددت وزارة التعليم الاسرائييلة باتخاذ إجراءات قاسية ضد المعلمين المضربين، حيث باشر مندوبها في الجولان، “اهرون زبيدة” باستدعاء المعلمين واستقبالهم بالتهديد والوعيد فيما إذا استمروا بالإضراب مع باقي المواطنين.
ومن جملة الإجراءات الانتقامية التي استخدمتها سلطات الاحتلال، إلغاء لقاء العائلات إلى الشرق من خط وقف إطلاق النار الواقع شرقي مجدل شمس، حيث يلتقي الأهل من الجولان مع ذويهم في الوطن الام. وكذلك منعت احد عشر طالبا من العبور إلى سوريا لمتابعة دراستهم الجامعية، ومنعت وصول الوقود إلى المنطقة رغم حيويته للتدفئة في هذا الوقت الشديد البرودة من الشتاء.
كان رد فعل جماهير الجولان هو تأكيدها على أنها مستعدة لدفع أي ثمن يتطلب الوضع دفعه،وأنها ماضية في الإضراب الشامل،وان كل الإجراءات والتهديدات العنيفة “والديمقراطية” لا تخيفها ولا تستطيع إيقاف سيرها. فالمواطن الثابت إصرارا مثل صخور جبل الشيخ هو الذي ينهض على أمثاله البناء”.
تحدث احد شباب الجولان، سلمان فخرالدين، في مؤتمر صحفي عقد في “بيت اغرون” في مدينة القدس فقال: “إن سكان الجولان العرب هم مواطنون سوريون. لقد قررنا أن نصمد أمام الضغوطات التي تمارسها سلطات الاحتلال ضدنا لتحملنا على وقف الإضراب”.
وبمقابلة صحفية تحدث احد مواطني الجولان، عندما سئل عن سبب قيامه بالإضراب، فقال: “إنني لا انتمي لدولة إسرائيل. إنني مواطن سوري منذ أن وجدت على هذه الأرض وعاش أسلافي فوقها. إنني عربي سوري منذ ولادتي وسابقي كذلك. ليس بمستطاع أي قانون أن يحولني لإسرائيلي، ولا يمكن لأي قانون أن يجردني من هويتي العربية السورية ويعطيني هوية لا تمت لي بصلة. لا نخاف الإرهاب ولا نلين. إننا سنديانة في جبال الشيخ قوة وصمود وخضرة”.
ويقول أخر: “حتى إذا اعتقلوا كل أبنائنا وكل آبائنا فان الأمر لا يدفعنا للاستسلام. لا يمكن لأية اعتقالات أن تخضعنا. لا يمكن أن نوافق على شطر أرواحنا وعائلاتنا وأرضنا إلى نصفين. نحن سوريون حتى النخاع”.