مشاهد من سوق العمل
عشتار نيوز للاعلام والسياحة/ فشة خلق
ايمن ابو جبل
تنطمس الحدود هنا بين السياسية والثقافة، بين الهويات الوطنية، والاجناس العرقية، تشكيلة “غير متجانسة”من العرب واليهود والروس والأثيوبيين، يختفي معها الشرق الاوسط بكل تعقيداته وعقده الدينية والقومية والسياسية، من الذاكرة والواقع. وتتحول الصراعات والمعارك، الى وجهة اخرى تختلف كلياً، عن أحقية وشرعية الوجود فوق هذه الارض، وتطغي مكانها احقية العيش بكرامة من اجل لقمة العيش.
هنا بين اصوات غير حية، يخلفها ضجيج الماكينات والاليات في المعامل والمصانع الاسرائيلية، ينحصر الهم بان تعود بجيوب مليئة نهاية الشهر تلبية للأقساط الشهرية والمصاريف اليومية، وتكاليف العلاج من ادوية واسنان وتكاليف التعليم وبنزين السيارة، وفواتير الكهرباء والماء،والمديونية المتراكمة التي لا تتقلص.
اكثر من 400 عامل وعاملة من الايدي العاملة الرخيصة من أبناء الجولان، ُتغذي مصانع الصابون والبلاستيك والخياطة والحديد الإسرائيلية، يتقاسم تعبهم وجيوبهم المُشغلين الإسرائيليين ويليهم المقاولين الرئيسيين،وشركات القوى العاملة، لضمان استمرار الأرباح الباهظة والسيولة، واستمرار جحيم العمل الرخيص، الذي يقبله العامل راضياً في ظل شح الوظائف، وفرص العمل .. وبين جحيم العمل وتدني شروطه، يعود العامل الى بيته بروح متعبة وطاقة لا تكفي لحضن زوجته وأولاده، يدفن حكايته داخل انينه ووجعه النفسي والجسدي والمعنوي…
وبين هذه المزارع الكبيرة والخضراء،التي انشأها المستوطنين، هناك حكايات وجع وألم يعيشها أكثر من 800 عامل وعاملة،كمعدل سنوي في قطاع الزراعة في المستعمرات الإسرائيلية، تدب الحياة وتنبض بعرق ودم أولئك. فتزدهر المنتوجات الزراعية من التفاح والكرز والكرمة والحمضيات، وتتغلب بأبشع الاشكال على ما كان يوما المنتوج الجولاني المتميز بالجودة والطعم والذوق، بعد ان جفت بساتين الكرمة والتين وحقول القمح والحبوب وزراعة الخضروات، في ظل شح الإمكانيات ومصادر الدعم، وتقلص الأسواق، وقلة التقنيات التكنولوجية والبيولوجية الحديثة.
هنا وفي ذات المكان والزمان، تستقطب الفنادق الإسرائيلية بأسعارها المفاجئة ووسائل الترفيه الاغرائية ،آلاف السياح العرب والإسرائيليين، حيث يلهون وينعمون بالراحة على أنقاض جثث مدفونة في المقابر المهجورة والمجهولة، لعائلات سورية، بقيت تُصارع تحت التراب الرحيل والاقتلاع القسري الذي ارادته هذه الحرب قبل خمسون عاما.
العمل في المستوطنات الإسرائيلية يكرس″ قطيعا من البشر” يضم عاملين وعاملات من كل الأوساط الاجتماعية، ينفعلون يغضبون، يفرحون،يتأففون يعملون بصمت بأجور زهيدة،، يطيعون مُشغليهم الآمرون، وينزلق بعضهم بسلوكه للعب دور خيالي، بان يتحول الى العين المراقبة والاذن المسترقة لأحاديث وتصرفات زملاءهم… وسحق طبيعتهم امام أوهام يعلقونها على هبات معنوية او مادية من قبل الآمرون، فيما المقاولون يُطيعون هم انفسهم المُشغلون، تارة بصمت وتارة بغضب ووجع، وفي النهاية يجنون ثمن الصمت وثمن الغضب، وينال العامل أجر زهيد، بالكاد يوفر قوت يوم تورط فيه مُكرهاً ، على العمل في هذا المجال لملاحقة جنون المصاريف والفواتير.
وبين الأمكنة والأصوات والحكايات، تعشش في دواخل أولئك العمال الهشة، ثقافة الخوف من فقدان مصدر الدخل المحدود ومكان العمل، فيبدأ قهر الخوف وذل الصمت بالتسلل اليه، تسلط المشغل وخنوع المقاول، وعجز العامل، فيصبح التكوين الإنساني( لدى هذا المعظم) هشاً محكوماً بفلسفة الوشاية ونقل النميمة بين العامل الأسير والمشغل السجان، وبين الأسير والاسير، فيما يبقى المقاول يحمل همومه في تأمين عامل جديد، ويوم عمل جديد، وسعر اخر جديد، واراضي جديدة تنتظر حصادها باتفاق مع رجال المستعمرات الذين اصبحوا اسياد هذه الأرض المسلوبة.
وهكذا، في ظل قوانين وشروط العمل يصبح الانسان السوري في الجولان أجيراً في المستعمرات، وتصبح صفحات التاريخ، مجرد أوراق وذكريات تدغدغ الاحلام والآمال والوجوه الشاحبة… يقول التاريخ” ان كان اميناً في صفحاته” ” ان ديارنا هذه، كانت بدايات الاستيطان البشرى، وبدايات زراعة القمح والكرمة، وتدجين الحيوانات.
هنا… كانت بوابة التاريخ البشري قبل يوشع وشاؤول وبنيامين، وقبل عثمان وعبد الحميد وسفاح ايار، وقبل غورو وحكومة فيشي، وقبل ان تعتلي رموز وأحزاب الاستبداد على اجسادنا وجباهنا… ونفقد بوصلتنا بين الاستبداد والاحتلال، ونغوص عميقا بلا ذاكرة بالنزوات والاحقاد محكومين بتأويل الأفكار، وتصيد احدنا الاخر على هفواتنا واخطاؤنا وعلى نجاحاتنا ايضاً ،حين تتجاوز عجز وفشل الاخرون منا …فيما سجاننا لازال يتقدم وعيونه نحو الامام،تتسع في ضعفنا، وتكبر في عجزنا، وتأويل افكارنا، وتترسخ نحو الحياة اكثر في خوفنا وكُرهنا، ونحن جميعا داخل اسوار السجن ” الا ان كل سجين يمسك بمفتاح قفل لباب اخر … معتقدا ان مفتاحه هو الوحيد القادر على فتح البوابة …