عملية الطرد والتهجير الصامت في الجولان السوري المحتل
عشتار نيوز للاعلام والسياحة/ القرى السورية المدمرة/
أيمن أبو جبل 26 فبراير، 2019 / شبكة جيرون الإعلامية
بالعودة إلى الأرشيف العسكري الإسرائيلي، نجد أن الجمهور الإسرائيلي بدأ دخول الجولان السوري المحتل، واكتشاف كنوزه الطبيعية والاقتصادية والأثرية، مع نهاية تموز/ يوليو، أي بعد شهر ونصف تقريبًا من انتهاء الحرب.
استطاع جيش الاحتلال الإسرائيلي “تنظيف الجولان” (وفق تعبيره) في أكبر عملية تطهير بشرية صامتة، وترسيم الحدود الجديدة مع سورية، وتنفيذ أضخم انتشار عسكري في تاريخ الصراع السوري الإسرائيلي، وسحب جثث القتلى من الأودية والسهول والتلال التي تم احتلالها، وصادر المئات من السيارات المدنية والعسكرية والمعدات المدنية والزراعية، ومولدات الكهرباء وطواحين الهواء، كما استطاع “تنظيف” المعسكرات والمواقع السورية من محتوياتها، وإخلاء مختلف مناطق الجولان من معظم الأسلحة الشخصية والثقيلة، وترسيم وترقيم حقول الألغام، وترميم الشوارع والطرقات، ومصادرة مقتنيات ومحتويات منازل وبيوت السكان الذين “نزحوا”، وإحصاء السكان الذين بقوا، وتجميع ومصادرة الآلاف من رؤوس الأغنام والماعز والبقر والدجاج، ولمنع المدنيين الذين “نزحوا” من العودة إلى بيوتهم وقراهم، هرعت قوات الهندسة الإسرائيلية إلى مختلف قرى الجولان، لفحصها وتفريغها من محتوياتها قبل تفجيرها وتسويتها بالأرض.
أطفال على دبابة سورية – بانياس 1967
بحسب إحصاء آب/ أغسطس 1967 الذي أجرته الحاكمية العسكرية الإسرائيلية في الجولان المحتل، فإن عدة آلاف من السكان المدنيين بقوا في الجولان من أصل 100 ألف إنسان، سكنوا حتى بدء الأعمال العسكرية الإسرائيلية، في التاسع من حزيران/ يونيو 1967 بينهم سكان أربع قرى شمال الجولان، سكنتها عائلات “درزية”، وقرية على الحدود اللبنانية سكنتها عائلات من الطائفة العلوية، وهناك مئات من الأشخاص الذين رفضوا مغادرة بيوتهم بإصرار، ولم يتركوها إلا بعد أن هُدمت منازلهم، وتم إخراجهم إلى شرقي الحدود الجديدة في الجولان.
لم تسلم قرى الجولان التي نزح أهلها منها، من عمليات السلب والسطو من قبل الإسرائيليين، مدنيين وعسكرين، حيث اعتبروا إن البيوت وممتلكاتها هي غنائم حرب، الأمر الذي جعل الحاكم العسكري يُصدر قرارًا بمنع الإسرائيليين من دخول الجولان إلا بموجب تصريح عسكري، وتعرض المخالفون الإسرائيليون الذين تسللوا إلى الجولان لغرامات مالية بقيمة 25-75 ليرة إسرائيلية، للحد من عمليات النهب العشوائية والجنونية التي سيطرت على “المنتصرين” في الحرب.
اما الذين سُمح لهم بالتجول بحرية تامة من دون تصريح عسكري مسبق، فهم موظفو سلطة الآثار الإسرائيلية والعاملون فيها، وموظفو سلطة المياه، والمخولون بجمع الأبقار والمواشي والحمير والبغال، وعائلات العسكريين الكبار، وممثلو مستوطنات الجليل الذين استغلوا تصاريحهم العسكرية لإجراء كثير من الأعمال والتقاط الصور، وقد حصلت طواقم الإعلام والصحافيين على تصاريح مفتوحة بدخول الجولان، حيث عمل قسم منهم في قوات الاحتياط.
الصحافي أبي عيزر غولان، من صحيفة (يديعوت أحرونوت) كتب عن إحدى جولاته في إحدى القرى المهجرة، وقال: “جلس الجنود في أحد المنازل لتناول وجبة العشاء، كانت حديقة المنزل مليئة بكافة أصناف الخضروات الطازجة، سكان البيت هربوا إلى مكان آخر، أو أُجبروا على المغادرة، لم يبق في القرية أحد من سكانها، وحدها الكلاب بقيت تحرس البيت، حيث لم تتوقف عن النباح لوجود الغرباء في المنزل، وقطعان الماعز والأغنام تُركت هنا، أمام كومة كبيرة من القش والحبوب وبركة ماء صغيرة، أما الجياد فقد كانت مربوطة في أماكنها في الحديقة، لم يعكر هدوءها سوى بعض الجنود الذين أخذوا يمتطونها، كرجال الكابوي في الغرب الأميركي. برك المياه ونوافير عديدة تنتشر في إرجاء كل بيت، ومن داخل كل بركة هناك ماسورة مياه تنقل المياه بالتنقيط إلى بركة صغيرة لتشرب الحيوانات منها، كان معظم الزوار الجدد مزارعين من المستوطنات، يدركون أهمية وروعة الحياة هنا”.
في 21 تموز/ يوليو 1976، أصدرت الحاكمية العسكرية أوامر لتنظيم حركة السير في الأراضي المحتلة، لقطاع غزة كان الدخول مفتوحًا أمام الجميع، ومن رغب من الإسرائيليين في زيارة سيناء والضفة الغربية كان عليه الركوب في الباصات المخصصة، أما الطريق إلى الجولان، فظلت مغلقة أمام الجمهور طوال أسبوع كامل حتى استكمال وانتهاء الترتيبات الأمنية والعسكرية، التي لم يُعلن عنها رسميًا.
الصحافي أهرون لهب قال، عشية فتح الطريق للجولان: “سافرنا إلى لؤلؤة الجولان بانياس التي تضررت كثيرًا من المعارك، وخاصة عمليات القصف الجوي والمدفعي، بيوت ومواقع عديدة أصيبت بأضرار بالغة، وصلنا إلى نبع بانياس الذي يغذي 60 بالمئة من نهر الاردن -وكان السوريون يولون أهمية سياحية لينابيع بانياس الرائعة- مع دخولنا بدأت سلطة حماية الطبيعة بوضع لافتات في كل زاوية، تنبه السائح الإسرائيلي إلى احترام المكان والمحافظة عليه، ككنز وطني طبيعي لشعب إسرائيل، على الرغم من أنه لم يك قد ضُم إلى إسرائيل بعد”.
في 29 تموز/ يوليو 1967، تم السماح لجميع سكان “إسرائيل” بالدخول إلى الجولان والتمتع بمناظره الطبيعية وثرواته الغنية، حيث دخل في يوم واحد أكثر من 50 ألف سائح إسرائيلي إلى بانياس، آلاف السيارات سببت ازدحامًا مروريًا هائلًا، والآلاف دخلوا القرى السورية الفارغة من سكانها، لعبوا فيها وأكلوا من ثمارها وخضرواتها وفاكهتها، وطبعًا هناك قسم استعار ما وجد من أمتعة، وتجولوا في المواقع العسكرية السورية، والتقطوا الصور مع آلاف الآليات العسكرية السورية، التي بقيت مكانها، وجمعوا كل ما وجدوه كتذكارات أو كمقنيات: بقايا أسلحة ورصاص وأحذية وملابس وأواني.. كل شيء تقريبًا كان بمتناول يد الإسرائيليين”.
مثلث الحدود السورية الأردنية الفلسطينية “الحمة السورية” 1967
في بداية أيلول/ سبتمبر 1967، جاء في ملحق صحيفة (هأرتس) الإسرائيلية بحسب وصف الصحافي رومان بريستر، تحت عنوان (نزهة في ميدان معركة): “نحن لسنا في عرض مسرحية (نزهة في ميدان المعركة) للمؤلف الاسباني فرناندو أرابال ذات الفصل الواحد.. حيث يمزق المشهد الأخوي السعيد في نهاية المسرحية بشكل صاعق الحجاب اللاواعي للأحداث، ويتحول إلى مشهد قتل جماعي لضحايا أبرياء. غير أن بين الشخصيات المسرحية الأربعة يبرز منظور انتقادي آخر موجه إلى الضحايا أنفسهم، وهو جوهر المسرحية، إنه يتمركز على أبوي الجنديين اللذين ينظران إلى الحرب على أنها توق إلى الماضي. ترفع الستارة عن أرض جرداء، في وسط المسرح أكياس من الرمل. فترة صمت طويلة متصلة، تقطع مرة واحدة خلال أصوات طلقات متفرقة”.
ويتابع: “هنا في الجولان، نحن أمام مشاهد حقيقية من مسرح الحياة، كله حقيقي وواقعي وملموس لدرجة الألم، هنا حاربوا.. هنا قُتلوا.. هنا حفروا بالصخر بأظفارهم.. هنا أطلقوا النار، هنا دوى صوت المدافع وتناثرت الجثث والغبار. الآن انتهى كل شيء. هدوء.. صمت.. وقهقهات وضحكات الأطفال.. طفلة حيفاوية تصيح فرحة وسعيدة: (أمي.. أبي، انظرا.. هنا تتفتح الأزهار). ميري طفلة حيفاوية أخرى تومئ بيدها لأهلها: “انظروا هناك أزهار جميلة تنمو”، ولكنها لا تستطيع أن تقطفها، فالأسلاك الشائكة وخطر الألغام يحولان دون دخولها لقطف أزهارها”.
عصر جديد للسياحة في طبريا
إعلانات شركة “ايغد” الإسرائيلية برحلات إلى الجولان 1967
الصحافي مناحيم رهط، من صحيفة (معاريف) كتب عن أول رحلة إلى الجولان: “باصات شركة (إيغد) الحكومية، وناقلات كبيرة أخرى لم يتوقف هديرها باتجاه الجولان، تقتحم الطريق من بنات جسر النبي يعقوب، محملة بالمسافرين مقابل 27 ليرة، يتمتع فيها السائح برحلة عبر الزمن إلى الماضي، رحلة من نوع آخر مكيفات هواء، وكل وسائل الراحة، لكن الرحلة ليست إلى الماضي البعيد”.
وتابع: “هنا راهبات وفرسان المعبد (بنات يعقوب) عبروا إلى دمشق، من يهتم بعد بحروب الصليبين؟! الماضي بدأ هنا، في النصف الأول من حزيران/ يونيو 1967. الباصات تتقدم ببطء، والمحركات تلهث بشكل محموم للتغلب على صعوبات الطريق المتعرج على سفوح التلال، وبطء حركتها يتيح للمرشد السياحي ذكر التفاصيل عن كل شيء على كلا الجانبين. من اليسار حقول ألغام سورية لم تُنظف بعد، ومن اليمين ترون سهل الحولة وأحواض السمك في الجليل الأعلى… وصلنا إلى بانياس، نصف ساعة للاستراحة في ينابيعها، وشراء الفواكه من الباعة الدروز الذين بقوا في الجولان، لم تجذب ينابيع بانياس السوّاح، بقدر ما جذبهم شراء وتذوق الفاكهة، بدؤوا يساومون على السعر، ويتجادلون مع الباعة بالثياب الرثة، دون أن يفهم أحدهم لغة الآخر، وحدهم الشباب، بحماس وصياح، خلعوا ملابسهم فورًا، وقفزوا إلى داخل مياه ينابيع بانياس الباردة جدًا، للسباحة”.
الجلبينية
الجلبينية كانت المحطة الأولى لرحلة الصحافي بريستر، من صحيفة (هآرتس) وكتب في افتتاحيته: “طوال سنوات، شكل اسم الجلبينية ذعرًا وخوفًا لدى كل إسرائيلي، حيث اعتدنا قراءةَ عناوين الصحف اليومية، بجملة (السوريون أطلقوا النار مرة أخرى من موقع الجلبينية). كنا نشاهد كل المواقع من بانياس في الشمال حتى الحمة في الجنوب، مليئة بمعدات قتالية، دبابة هنا وأخرى هناك، تحصينات.. ملاجئ.. ثغرات في الطرقات، ملاجئ بجدران خرسانية من كل تلك المواقع والتحصينات، جثم السوريون على صدورنا تسعة عشر عامًا.. كنا فيها تحت رحمتهم. من نوافذ الباص تستطيع رؤية سيارات محترقة، وشاحنات محملة بالثلاجات والأغراض، وصحون بلاستيك وساندويشات منتشرة على الأرض، وعلب فارغة من اللحوم وأخرى كاملة، وبيض مكسور، وبجانبها عبوات فارغة من الذخيرة السوفيتية، بقايا عديدة من أشكال الموت، وبقايا من أشكال الحياة، وتشاهد زوارًا جددًا آخرين، نزلوا إلى الخنادق والتحصينات، ينظرون كما كان السوريون ينظرون إلينا ببنادقهم ورشاشاتهم وقذائفهم التي ترمي حممها باتجاهنا.. الآن كل شيء انتهى وتبدل”.
أما دافيد شاليف، من صحيفة (دافار) فيصف جولته بتأثر وضيق ويقول: “مساحات مهجورة، صامتة، وقرى ومنازل محروقة ومدمرة، وحيوانات ضائعة تائهة وجائعة، تبحث عن أصحابها الذين اعتادت أن تجدهم، تختبئ من حيوانات أخرى مفترسة. قبل أيام كانت هذه المساحات وهذه القرى مليئة بالحياة والضجيج والأغاني، وبين الحين والآخر، تشاهد أناسًا وأشخاصًا يتحركون بثقل ووجع، أزواجًا وفرادى، على ظهر حمار، تاركين كل شيء وماضين إلى مجهول.. بقوا وحدهم في هذا الصمت”.
وأضاف: “القنيطرة مدينة تسكنها الأشباح، وهي الآن مليئة بالأوساخ. أقفال أبواب المحال التجارية والمراكز خُلعت ونُهبت محتوياتها.. نازحة في الشارع الرئيسي لم يتبق لها سوى هذا المقهى، وفيه موقد للشواء وبعض علب التوابل وطاولات معدة لاستقبال زوار، لكن الحركة شبه معدومة، هناك جنود من الجيش الإسرائيلي، وبعض السكان المدنيين الخائفين في أحدى أحياء المدينة الذين تم جمعهم في غيتو، وعددهم حوالي 200 عربي معظمهم عجزة وكبار في السن وأطفال ومرضى، وهم بحاجة إلى من يرعاهم، وعددهم يقلّ يوميًا، ربما يذهبون إلى مكان لا نعرفه، أو ربما يجتازون خط وقف إطلاق النار سرًا، قسم منهم يختار الرحيل بالاتفاق، إلى داخل سورية، بواسطة الصليب الأحمر”.
رحلة مجانية إلى الجولان
في الطريق إلى بركة رام، تمر القافلة في قرية مسعدة، وبعض المواقع العسكرية السورية المحصنة بشدة. المرشد يلفت نظر المسافرين إلى بعض اللافتات التي وضعت على الطريق: “هذا الموقع تم احتلاله من قبل لواء غولاني 10/ 6/ 1967”. إحدى المسافرات من تل أبيب تقول: “أقسم بشرفي إن رجالنا قاتلوا ببسالة وشجاعة هنا”. في ضواحي القنيطرة نتفاجأ بقرارات الحاكم العسكري التي تمنع دخول القنيطرة، من غير الممكن أن تزور الجولان ولا تدخل القنيطرة، فيبحث السائق والمرشد عن بدائل. هنا معسكر للجيش السوري وعليه قوس النصر الذي أقامة السوريون ومكتوب عليها (وحدة.. حرية.. اشتراكية) شعار حزب البعث العربي الاشتراكي.
معسكر سوري
بين الحين والآخر، تشاهد عمالًا من الدروز ذاهبين للعمل في إصلاح وترميم الطرق، وتشاهد بقايا سيارات محروقة على جانبي الطرق، حيث تعلو التساؤلات: مَن قصَفهم؟ كيف استهدفوهم؟ من كان فيها؟ ويجيب المرشد عن تلك الأسئلة: “قبل أن تبدأ قواتنا التحرك باتجاه الجولان، هرب كبار الضباط والقادة السوريون في الباصات أولًا، ثم هرب الجنود في الحافلات العسكرية، وسلاح الجو الإسرائيلي استهدف كل الآليات التي تتحرك، وفي كل استهداف كان هناك إصابات مباشرة”.
نستمر في جولتنا، وعلى طول الطريق قرى سورية مهجورة في معظمها، وبيوت كثيرة جدًا مدمرة، وهناك بيوت ما تزال سالمة وحولها حدائق خضراء وحيوانات وكلاب تلهو، إحدى السيدات تسأل: لماذا يسكنون هنا؟ هل هذه البيوت صالحة للسكن البشري؟ أحد المسافرين يجيبها: “هذه البيوت مهجورة، إن كنت ترغبين في اقتناء منزل بالمجان، فتفضلي”، وترد عليه بعصبية: “سيدي أنا أبحث عن الحقيقة، كيف وصلنا إلى هنا بسهولة؟!”.