الكنز المفقود وطبيب الأسنان السوري من قرية عين فيت
شيكة جيرون الاعلامية
أيمن أبو جبل/
الكاتب الإسرائيلي، والمرشد السياحي “ميخال بن درور”، من كيبوتس “سدي نحميا” القريبة من قرية العبسية (خيام عبس) والدوارة في سهل الحولة، ما زال يحتفظ، في أرشيف المستوطنة، بالعديد من الوثائق والقصص التي ميزت العلاقات العربية اليهودية، قبل قيام الدولة العبرية في العام 1948، وتهجير الشعب الفلسطيني، إبان حرب النكبة الفلسطينية، حيث نشر جزءًا منها في مقالات تُعرف بـ “يوميات الحولة”.
إحدى تلك الوثائق عن طبيب أسنان سوري من قرية (عين فيت) السورية في الجولان، كان يوصف بأنه “طبيب من الخيال”، بالنسبة إلى المستوطنين في المستعمرات اليهودية في سهل الحولة. حيث كان طبيب الأسنان الأقرب إليهم، حين يحتاجون إلى العلاج والدواء، خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات، وكانت لديه الحلول لكل الأوجاع، وتمتع بعلاقات جيدة مع السكان العرب الفلسطينين واليهود، من أبناء صفد وقرى سهل الحولة، قبل قيام “إسرائيل” في العام 1948.
كان طبيب الأسنان السوري، يأتي إلى مستوطنة حوليوت “سدي نحميا”، من قريته عين فيت مرة في الأسبوع، ويقدم العلاج للمرضى، حاملًا حقيبته وأدواته وأدويته على ظهر حماره، ويصل إلى مقام النبي يهودا، مرورًا بقرية مداحل التابعة لعائلة أبو عيد الفلسطينية (مستوطنة كفار سولد اليوم)، ثم إلى قرية العبسية (تقع بين مستعمرتي عمير وسدي نحميا)، في الطرف الشمالي الشرقي لسهل الحولة، ومن هناك يركب عربة حصان إلى مكان مخصص له حيث ينتظره عشرات المرضى، الذين يعانون أوجاع الأسنان، وكل هذا يتم تحت إشراف ومساعدة مسؤول منطقة حيفا والشمال في الوكالة اليهودية “يهوشع حبوشي” وهو عراقي الأصل، وإضافة إلى عمله في الوكالة وتأمين حاجات المستوطنين، كان يدرّس اللغة العربية لليهود، حيث استطاع قبل الحرب 1948 التحرك بحرية عبر الحدود الفرنسية البريطانية، من خلال بطاقة عبور، منحها الانتداب لبعض مخاتير القرى الحدودية في فلسطين ولبنان وسورية، للوصول إلى صفد كمركز قضاء آنذاك.
ونظرًا لعدم وجود طبيب أسنان بكفاءته في المنطقة، استطاع الطبيب السوري الوصول إلى عشرات المرضى في مختلف قرى سهل الحولة، الأمر الذي جعله طبيبًا مشهورًا ومعروفًا، أحبه الجميع، حيث استطاع بناء منزل له في بلدة بانياس أشبه بقصر مطلًا على الينابيع الجميلة في أسفل المغارة، استضاف به العديد من المسؤولين، السورين واليهود منهم أريه غال، أحد المسؤولين في منظمة البلماخ الصهيونية، حيث أعدّ له جولة في بانياس وقلعة النمرود، واستضافه في منزله المكون من طابقين في قرية عين فيت، المطل على سهل الحولة والمستوطنات الإسرائيلية، وشربوا معًا العرق الزحلاوي ذا المذاق الرفيع. حينها لم تكن حالة العداء ملموسة بين العرب واليهود.
بعد العام 1948، كان بإمكان الطبيب السوري الوصول إلى المستعمرات ، واستطاع تأمين قطع مصنوعة من الذهب مصدرها مدينة حيفا، لاستبدال تيجان أسنان مرضاه في القنيطرة ودمشق.
الطبيب السوري كان شغوفًا بالآثار القديمة، والبحث عن القطع الفضية والذهبية في المواقع الأثرية في بانياس القديمة، فكانت جدران منزله تتزين بنقوش ولوحات من الفسيفساء وخواتم من الفضة والذهب، وقد اكتسب من وراءها ثروة كبيرة، جعلته يبنى منزلًا آخر من أربعة طوابق في مدينة القنيطرة، خلال سنوات الستينيات قبل هزيمة حزيران عام 1967.
في العام 1967، طلب منه المسؤول الإسرائيلي “أريه غال” البقاء في منزله في مدينة القنيطرة مع أفراد عائلته، وأكد له أن لن يتعرض له أحد، في حال وصول القوات الإسرائيلية إلى المدينة، إلا أن (راديو دمشق) أذاع البلاغ العسكري السوري الذي قال إن “الجولان سقطت بيد إسرائيل”، في الوقت الذي كانت فيه القوات الإسرائيلية لا تزال على الحدود… فترك الطبيب السوري بيته مع عائلته، ورحل إلى دمشق، رافضا العرض الاسرائيلي كلياً،متخليًا عن كل شيء. والبقاء مع اهله وشعبه وعائلته.
فور انتهاء الحرب، كان بيت الطبيب السوري في القنيطرة، هدفًا لزيارات أريه غال والعديد من ضباط الاستخبارات الإسرائيلية وعلماء الآثار، الذين اعتبروا بيته كنزاً ثميناً في محاولة للاستيلاء عليه، هذا الكنز الذي جمعه الطبيب على مدار سنوات، إلا أنهم لم يجدوا منه شئيًا.
بعد سنوات، عن طريق الصدفة، تمّ العثور في سوق عكا القديم على عشرات القطع الأثرية التي جمعها الطبيب السوري خلال سنوات طويلة، حيث استطاع أشخاص آخرون الوصول إلى الكنز قبل ضباط المخابرات، مستغلين عمليات السرقة والنهب التي تعرضت لها بيوت السوريين في مدينة القنيطرة ومختلف القرى والبلدات السورية خلال الحرب وبعدها، وكان من الصعب على الجيش الإسرائيلي احتواؤها أو السيطرة عليها.
بعد أكثر من خمسين عامًا على زيارات الطبيب السوري، إلى المستعمرة، احتل إخوانه أطباء الأسنان السوريون من البلدات والقرى السورية في شمال الجولان (مجدل شمس ومسعدة وعين قنية وبقعاثا والغجر) وجميعهم خريجي جامعة دمشق، ليس المستوطنة فحسب، بل كل القرى والبلدات في شمال “إسرائيل”، لمعالجة المرضى الإسرائيليين، إلا أن الرجل الطيب طبيبنا السوري لم يعد ولم تعد جلسات العرق الزحلاوي، ولم يعد الحمار إلى طريقه المعهود. ويرى قدامى المستوطنة أنهم ربحوا العديد من أطباء الأسنان، إلا أنهم خسروا الطبيب السوري الإنسان..
المنزل في قرية عين فيت
عدد من مخاتير قرى الجولان وسهل الحولة مع ضابط يهودي