مشاهد يومية من داخل المستشفى
عشتار نيوز للإعلام/ فشة خلق/ ايمن أبو جبل
-1-
هروبا من عمليات البحث والتدقيق، وبعيدا عن الشأن العام، تستحق الذات فينا بين الحين والحين الغوص في تفاصيل مخاوفها وضعفها وعجزها أحيانا… في لحظات الضعف تكون الحقيقة عارية تماما أقرب الى الواقع أكثر دون اي اتيكيت اجتماعي سرعان ما يذوب مع انتهاء مسببه.
هذه الليلة انت الملك
-2-
عمل جراحي غير مخطط بان يكون بهذه العجالة، جعلني ضيفا على مشفى صفد وهو الأقرب على الجولان، (50 دقيقة) حيث استلمني طاقم قسم العظام ومنحوني غرفة تطل من بعيد على بحيرة طبريا فيها مريض اخر سواي كذلك يتم تحضيره لعمل جراحي.
الملفت في الليلة الأولى هذا الدفء الإنساني الجميل الذي لا تستطيع تجاهله او الإحساس به من كل ممرض وممرضة في القسم، اعرف قسم منهم في السابق من زيارات لمرضى كنت أزورهم، لكن هذه الليلة هم مختلفون تماما في كل شيء. وجوههم، عيونهم وحركات أجسادهم، وابتساماتهم كلها موجهة اليك انت وحدك، ولا أحد سواك… وكأنك الملك. على الأقل هذه شعور نرجسي يسيطر عليك…
كورونا وسيجارة
-3-
ان كنت مدمنا على التدخين، ودفعتك الظروف لدخول المستشفى فانت في وضع لا تحسد عليه، لان هناك زاوية خاصة بالمدخنين خارج مباني المستشفى مع تفشي وباء الكورونا وزيادة الإصابات في إسرائيل، فان أي اشتباه بمصاب بالمرض تستدعي الاستنفار في قسم الطوارئ. وابتعاد الناس فورا عن المنطقة بشكل غير واع وغير مسؤول. ما يستدعي خوفك ليست الإصابة بالمرض الذي لا أحد محصنا امام الإصابة به، لكن ذاك الخوف والهلع من الناس حال سماعهم او رؤيتهم لاحد المشتبهين بالإصابة، ومشاهد رجال الطوارئ العاملين في المجال الطبي كأنك فجأة داخل محطة فضائية ..
ملائكة وجسد هزيل
-4-
كان من المقرر ان يكون لدى وقت للاستعداد للعملية ، تصل فيه زوجتي واحبتي، لمرافقتي الى الطابق السفلى قبل الدخول الى غرفة العمليات، لكن طارئ ما لدىهم ، استدعى تقديم موعد العملية بثلاث ساعات
كانت الابتسامات الجميلة تعلو وجوه افراد الطاقم ” ميري، رزان، اورلي، ايلييت ،فتحي، شربل، حين دخلت غرقتي وطلبوا منى الاستعداد للعملية، لأنها ستكون” الاستفتاحية” لغرفة العمليات هذا الصباح. أنجزت ما استطعت إنجازه وحدي، وودعوني بذات الابتسامات الجميلة، بانتظار عودتي الى القسم، طلبت منهم حين تأتي زوجتي ان يسلموها الأغراض الشخصية المهمة جدا، هذا الكمبيوتر وخاتم زواجي.
-5-
لا اخفى مدى سعادتي بتلك الوجوه، وتلك الابتسامات، فانت ستكون مُغيبا عن العالم لعدة ساعات، لن تكون شريكا به، هناك خوف داخلي انه ربما تعود اليه وربما ستكون تلك الوجوه اخر ما ستراه، ارعبتني جدا هذه الفكرة المجنونة، لكن خوف ورجفة قوية تقتحم جسدي، تبددت حين شاهدت دكتورة سامية أبو جبل صدفة ف غرفة العمليات. تمنت لي النجاح، وطمأنتني انني بين افضل جراح، وافضل طاقم معه…
-6-
دخلت غرفة العمليات، واغلق الباب، لا اعرف لماذا تكون باردة جدا، رغم دفء تعامل افراد الطاقم الذين سرعان ما تجمع حولي مبتسما، وبدأوا بإجراء الاستعداد للعملية…. كانوا سبعة رائعين عربا ويهودا معا، والجراح” فوبوف” المشرف على العملية، حيث عرفني عليه صديقي الطبيب الرائع وجدي الصفدي وشرح لي تفاصيل سابقا ما اعانى من مشاكل صحية التي تستدعى العملية الجراحية … أصبح جسدي الان مرتبطا بالأجهزة التقنية والتكنولوجية هناك خيوط وانابيب ومجسات واخر شيء اذكره… ستنام بعد قليل. كانت الاحلام قد هجرتني ودخلت أيضا في سبات كامل معي …
بين الوعي واللاوعي
-7-
طلعت الولي صديق من المجمع الطبي ممرض ومعالج، هو اول من استطعت تمييزه بيت الحاضرين، كنت ارتجف من شدة البرد والوجع، كان الألم ينخر ظهري، وكأنه مقسوم الى نصفين، وشيء يشد بقوة نحو النصف الاخر، اذكر انني شكوت امري الى صديقي ولم اعد اذكر شئيا بعدها.
كان الألم يشتد وعيوني تتفقد الغرفة بين الحين والأخر، لا أرى سوى اشباه وجوه وظلال تتحرك. وانا مستلقى لا اشعر بجسدي، في جولة تفقدية بين الغفوة والغفوة، كان اخي الأكبر يمسح جبيني بيده ويبتسم مرحبا بعودتي، واخرجوه لا اعرف كم مكث، بعدها دخلت زوجتي الرائعة سماح، كان دمعها الذي تخفيه وراء عيونها الجميلة، يكشف عن خوفها وقلقلها، وبعدها دخلت والدتي بدموعها وخوفها وبسملتها… وغفوت طويلاً وغفى معي ذاك الشيء المتنمر داخل ظهري…
عطش ووجع وابتسامات خجولة.
-8–
دخلت غرفة العمليات الساعة السابعة الا ربع صباحا، وخرجت منها الساعة الواحدة والنصف ظهرا، ومن الإنعاش الرابعة عصراً.. كان جميع أحبتي امام غرفة العمليات، رافقوني الى القسم الذي خرجت منه، كان اندريه وسالينا ونعمة قد دخلوا الغرفة لإجراء بعض الفحوصات ما بعد العملية…
استطعت تمييز الكثير من الأحبة حال انتهاء التخدير، لكنني اشعر بأنني مشوش التفكير، لا اقوى سوى على تحريك عيوني وتوزيع بعض الابتسامات، كان الوجع يشتد وشعور قوي بالعطش، كانت زوجتي ترطب شفاهي ببعض قطرات الماء التي اطلب المزيد منها لكنها ترفض بإصرار.
غادر الجميع وبقيت ممدا على السرير، ووحدها زوجتي بقيت تمسح بيدها جبيني اشعر بأنفاسها القلقة وهذا الجسم الثقيل لا زال يشد بقوة الى الخلف كأنه لم يعد يطيقني، كأنه يريد التخلي عني والخروج مني.
محاربة الوقت والوجع
-9-
كانت تتمدد جانب السرير على كرسي، وتحمي جسدها من برد صفد وصقيعه، وتنتفض مع كل حركة بسيطة او كل اه تصدر مني. كانت كل العالم بالنسبة لي، وكنت عالمها الوحيد الان، وهذا الليل يمضي بطيئا، على مهله لا يستعجل كما استعجل النهار والأيام وانقضاء الوقت المطلوب طبيا لأستعيد بعضا من جسمي، واخفف عبئا عن نفسي وعن زوجتي، لكنه الوقت لا يخضع للمزاج…
ان كنتم تحبون مرضاكم في المشفى لا تأتوا إليهم…
-10-
تبدأ الفحوصات اليومية صباحا قبل ان تغزو اشعة الشمس مياه طبريا وتدخل نوافذ غرف المستشفى الكئيبة، بعد ليل طويل صارع رحيله، عادت تلك الوجوه الناعمة الطيبة لصديقاتي واصدقائي الجدد، كنت اشكرهم كما لو انهم أتوا لي وحدي فقط، حتى أصبحت اغار وانزعج ان امضوا وقتا أطول مع زميلي الجديد في الغرفة وهو من الجليل، حيث خضع الى عملية مشابهه بعد تعرضه لحادث عمل تسبب في كسور في العمود الفقري.
كان كل شيء يمضي سريعا، كل شيء سريع، وكأن الليل يزاحم النهار ليسيطر على وقتي ويتحكم في قلقي وخوفي ووجعي،، كنت نائما حين استيقظت على ضجيج عالي وازدحام كبير في الغرفة، كانوا أصدقاء ومعارف لأهل زميلي قد أتوا لزيارته والاطمئنان عليه وهو لا يزال تحت تأثير المخدر والأدوية المضادة، للأمانة كانوا كُثر يأتون ويخرجون بالعشرات ،ويتحدثون فيما بينهم عن الكورونا والانتخابات التي ستكون صبيحة اليوم التالي ، أناس طيبون ومخلصون ويعرفون كيف يكون الوفاء والإخلاص لمن وقف جانبهم في المواقف الصعبة، اهل زميلي واخوته واخواته وهو ذاته يستحقون بجدارة كل هذا الحب بالفعل، لأنني وزوجتي أحببناهم كما لو كنا على معرفة قديمة وطويلة معهم… محبة الناس جميلة لكنها تكون أكثر جمالا ان كانت في موضع بعيدا عن غرف العلاج والرعاية الطبية في المستشفيات كان يعبرون عن حبهم الفطري لا صدقاؤهم بالوقوف معهم في مصابهم، بحكم العادات والتقاليد التي أتمنى ان تنتقل الى مكانها الطبيعي جدا خارج نطاق غرف المستشفى.
-11–
تشابه في أسماء العائلات يبعدني عن طبريا
زميلي وصديقي الجديد ينتمي الى عائلة اصيلة اسمها يتشابه مع اسم عائلتي، خطأ طبي صغير قد يغير حياة كل منا، حرص أحد الأطباء على ذلك دفعهم الى نقلي الى غرفة أخرى بعيدا عن النافذة التي تطل على طبريا، التي اوشكت ان تصل مياهها الى نافذتنا بحسب اخبرتني به زوجتي خين عشقت بحيرة طبريا في اجمل تجلياتها ذاك المساء حيث كانت حنونة جدا لدرجة انها سمحت لي ان امسك موجها بين يدي..
-12-
نظافة المكان هي أسلوب علاج
ان النظافة في القسم هي امر مميز وواضح، كل عملية تنظيف رافقها عملية تعقيم لكل شيء، حتى اسرتنا وغرفنا، لكن نقص بالموارد البشرية يومي الجمعة والسبت يجعل القسم اشبه بالكارثة البيئية قياسا الى طبيعة المكان مشفى حكومي عام. ما يميز طاقم الممرضات والممرضين انهم يتحولن الى عاملات وعاملي نظافة ومطبخ، حريصون على تقديم كامل الرعاية الصحية والنفسية والمعنوية دون تذمر دون تنمر.. انهن جميلات، عذرا …حتى اثناء الوجع ينمو الحب لدرجة الشوق اليه…
عناق ووداع ولقاء الاهل والاولاد
-13-
كانت زوجتي في اليوم الأخير عنوان أحاديثهن، كان لوجودها ودورها العامل الأكبر في تخطي مرحلتين من العلاج النفسي والمعنوي والشخصي، عدا كونها حلت مكان الممرضات في بعض المهمات الطبية. كانت فعلا ملاك يحرسني، ويرعاني، ودعنا الطاقم الطبي وبعض الأصدقاء الذين تقاسمنا واياهم هذه الرحلة القصيرة، وغادرنا في طريق العودة بعد وصول علاء الجميل ابن اختي للمشفى ليقلنا بدل سيارة الإسعاف.
بعد عدة محاولات للنزول من السيارة ومساعدة احبة اخرين، وصلت الى البيت حيث قام الأحبة بتجهيزه لقد بدات مرحلة الاستشفاء فعلا حين عانقت الأولاد، للبيت طعم اخر والدفء طعم اخر حتى الوجع سيأحذ منحى اخر. الان سيبدأ صباحي بلهفة للوصول الى النافذة التي تطل الى الخمسين عاما القادمة…