السياحة الحربية في الجولان المحتل
أيمن أبو جبل
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
20 أيلول/سبتمبر 2020
السياحة الحربية في الجولان المحتل سائحون إسرائيليون يقفون بالقرب من تمثال جندي إسرائيلي في بن تل، بجوار الحدود الإسرائيلية – السورية في هضبة الجولان. (عاطف الصفدي/ وكالة حماية البيئة/ شاترستوك)
فتح اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل البابَ مجددًا لازدياد وتيرة السياحة الإسرائيلية في الجولان المحتل، بعدّه منطقة إسرائيلية تتميز بجمال طبيعي غني عن التعريف، حيث تسعى حكومة تل أبيب لتشجيع الإسرائيليين على زيارة الجولان والاستمتاع بوسائل الراحة والترفيه التي يوفرها القطاع السياحي للزائر، في ظل إغلاق المجال الجوي الإسرائيلي أمام الرحلات السياحية إلى الخارج، منذ انتشار فيروس كورونا في آذار/ مارس الماضي، وتقوم شركات سياحية إسرائيلية مختلفة، داخل “إسرائيل”، بالترويح للسياحة، بالتعاون مع المجلس الإقليمي للمستوطنات الإسرائيلية وسلطة حماية الطبيعة والحدائق العامة الإسرائيلية، من خلال تحديد مسارات خاصة لنوع جديد من السياحة، بعد تجهيزها وتأمينها وإزالة العقبات والأخطار، وتقديم إغراءات مادية ضخمة يستفيد منها المستثمرون والزوار الإسرائيليون على حد سواء.
قد تكون السياحة نشاطًا ترفيهيًا ورياضيًا يجذب عددًا كبيرًا من السائحين من الداخل الإسرائيلي ومن مختلف دول العالم، لما يتمتع به الجولان من وفرة المياه والأنهر والجداول والينابيع والأودية والحدائق العامة ومناظر طبيعية خلابة تتميز بها الجبال والتلال العديدة المنشرة على طول الجولان، إضافة إلى ميزة المناخ الطبيعي كمنطقة استجمام على مدار السنة، نظرًا للفارق الكبير في درجات الحرارة بسبب الارتفاع عن سطح البحر. ففي الجنوب ترتفع درجات الحرارة صيفًا إلى 38 درجة في شاطئ طبريا، وتعتدل في الشتاء فتصل إلى 18 درجة. أما في الشمال، فتنخفض درجات الحرارة شتاء إلى ما دون الصفر (في جبل الشيخ ومجدل شمس)، وتعتدل صيفًا فتصل إلى 25 درجة. يستطيع زائر الجولان الاستفادة من السياحة العلاجية التي توفرها المياه المعدنية في حمامات الحمة الشهيرة في الجنوب في أشهر الشتاء والخريف، والتمتع بثلوج جبل الشيخ/ حرمون حتى فصل الربيع، ومشاهدة بعض القرى والمدن في الدول العربية التي يستطيع الزائر مشاهدتها من قمم حرمون التي يطلق عليها الإسرائيليون لقب “عيون الدولة”، أي “عيون دولة إسرائيل”.
صناعة بطولة مزيفة
عادة ما تولّد الحروب مفاهيم وقيمًا وثقافات خاصة بعد انتهائها، لتكوين رأي عام مُحصّن بفلسفة وروايات جديدة تخدم المصلحة العامة، وفي الحالة الإسرائيلية، يحتاج الأمر إلى مسوّغات لتبرير الاحتلال والاستيلاء على أراضي الغير بالقوة والبطش والتوسع والاستيطان، ولخلق بطولات وهمية تتعلق بقدرات دولة فتية صغيرة استطاعت الصمود والبقاء، في محيط عربي معاد ويهدد وجودها وبقاءها، فاحتاجت إلى صناعة محطات بطولية، وإلى إنتاج ثقافة حربية جديدة، من خلال استمالة العقول واحتلالها عبر وسائل الإعلام الممنهجة، وعبر إغداق ملايين الدولارات على هذه الثقافة لتعزيز الحالة المعنوية والثقافية والروحية في وعي الأجيال الشابة تحديدًا، كنوع من صناعة الرموز والأبطال للتغني بأمجاد الجيش الإسرائيلي وإرثه القتالي الأسطوري، في حروبه ومعاركه ضد العرب لحماية دولته وشعبه عن طريق القوة والتوسع، بخطاب صهيوني عن الحق الإلهي في هذه البلاد، وبالاستيلاء على الموروث والمخزون الطبيعي والحضاري لهذه المنطقة.
احتل القطاع السياحي المرتبة الثانية في مردود الدخل السنوي للمستوطنات الإسرائيلية؛ إذ بلغ نحو مليار دولار، وتسعى “إسرائيل” لمضاعفة عدد السياح ليصل إلى ستة ملايين سائح سنويًا، في السنوات القادمة، (بحسب وزارة السياحة الإسرائيلية).
خلال العقود الخمسة الأخيرة، استطاعت “إسرائيل” تحويل الجولان المحتل إلى وجهة سياحية أولى للإسرائيليين، بعد النجاح الكبير الذي حققته السياحة البيئية والثقافية والعلاجية والترفيهية، وأهم نجاحاتها الزيادة الملحوظة في أعداد المستوطنين الراغبين بالانتقال إلى الجولان، بوصفه أكثر المناطق “الإسرائيلية الآمنة” والمزدهرة والمستقرة اقتصاديًا، واستطاعت التأثير في عقول الإسرائيليين ونفسياتهم، من خلال تقوية الروح المعنوية، واستحضار البطولات الفردية والانتصارات التي حققتها القوات الإسرائيلية باحتلال الجولان، والمحافظة على هذا الإرث من خلال التركيز على أن “إسرائيل” “حررت الجولان”، بعد أن تكبدوا خسائر فادحة بالأرواح والممتلكات من جراء القصف السوري على المستوطنات الزراعية والمناطق الشمالية في الجليل، طوال تسعة عشر عامًا.
في التحقيقات التي يحتفظ بها الجيش الإسرائيلي في الأرشيف العسكري لوزارة الدفاع الإسرائيلية، هناك تفاصيل عن أبرز النجاحات التي يصفها قسم الأرشفة بـ “البطولات الفردية والجماعية للقوات الإسرائيلية”، من وجهة النظر الإسرائيلية، تهدف إلى رفع الروح المعنوية، وإلى تعريف الأجيال الإسرائيلية بحقيقة ما حصل، إضافة إلى عمليات الفشل والإخفاق التي قامت بها ألوية وفرق في الجيش الإسرائيلي في أثناء تنفيذ الأوامر والخطط العسكرية، أو أثناء تعاطيها مع المستجدات الميدانية، وهناك تسجيلات واضحة لتصرفات سيئة قاموا بها خلال احتلالهم للقرى والبلدات السورية. وتقول إحدى الوثائق الصادرة بعد أيام من انتهاء الحرب، وتحديدًا في 19 حزيران/ يونيو 1967، عن الفشل الاستخباري الإسرائيلي: “كل من دخل الهضبة السورية أدرك أن هناك فشلًا معلوماتيًا واستخباريًا إسرائيليًا حول تفاصيل هذه الجبهة، لم نكن نعلم أنها بهذا الحجم من التحصينات والدفاعات المنيعة. كل شيء في المواقع السورية كان يحسب لأي عملية هجوم أو احتلال، ولهذا كان وضعها أفضل بكثير من المواقع العسكرية الإسرائيلية في الجليل، غير أن قواتنا استطاعت الانتصار في هذه المعركة التي شهدت بعض مواقعها قتالًا شرسًا وعنيفًا أدى إلى سقوط عشرات من الشهداء دفاعًا عن وجودنا وبقائنا، ولإبعاد قذائف المدفعية السورية عن مستوطناتنا الشمالية إلى الأبد” (1).
تصور “إسرائيل” الإرث العسكري الذي راكمته في حرب حزيران بالبطولات العظيمة التي يجب أن تتذكرها وتستحضرها الأجيال، على الرغم من أن احتلال الجولان بدأ في التاسع من حزيران وانتهى في اليوم التالي، واستغرق 31 ساعة فقط. نائب رئيس الأركان الجنرال، حاييم بار ليف، قال أكثر من مرة: “إن هذه التحصينات كانت أقوى وأضخم من التحصينات العسكرية الألمانية في أوروبا، وضباط آخرون كانوا في فرنسا شاهدوا التحصينات العسكرية هناك، لكنها لم تكن بحجم التحصينات والدفاعات العسكرية في الهضبة السورية، من قاتل هنا من السوريين، في تل الفخار والعزيزات، قاتلوا بشراسة غير معهودة، خسرنا 34 قتيلًا ومئات الجرحى، لكن هذا الثمن الباهظ كان من الممكن أن يكون قاتلًا بالنسبة لنا، لو لم تنسحب قوات الجيش السوري وتترك قواعدها ومواقعها”، (المصدر السابق).
الصحفي الإسرائيليجدعون ليفي كتب في صحيفة (هآرتس) العبرية مقالًا، بعنوان “متى تتحطم الأصنام في إسرائيل”، قال فيه: “إسرائيل هي بلاد النصب التذكارية، حيث يوجد فيها نصب تذكارية أكثر من جميع الدول مقارنة بحجمها، وهناك نصب تذكاري لكل ثمانية أشخاص قُتلوا. في أوروبا هناك نصب تذكاري لكل عشرة آلاف قتيل. لا يوجد في إسرائيل تماثيل مثلما في أميركا، لكن يوجد فيها عدد لا يحصى من مشاريع التخليد والشوارع والمواقع التي تتحدث عن الروح. إسرائيل تقدس موتاها وأبطالها، معظمهم يستحقون ذلك. ولكن أيضًا في إسرائيل مثلما في أميركا، هناك أبطال مزيفون، ليس لأنهم لم يكونوا شخصيات نموذجية مثل ما تم تخليده فحسب، بل لأنهم كانوا مجرمي حرب ومسؤولين عن جرائم لا تقلّ رعبًا عن جرائم أندرو جاكسون، (جنرال سابق في الجيش الأميركي، وقّع خلال فترة ولايته الرئاسية على قانون ترحيل وإزالة الهنود الحمر، ونقل الآلاف منهم إلى معسكرات باستخدام العنف)، علينا أن نأمل أن إسرائيل ستواجه في يوم ما ماضيها، وسيأتي من يتجرأ على أن يحطّم أيضًا هنا لافتات وأبطال..”.
رحلات إلى الجولان في أعقاب المقاتلين الإسرائيليين
معركة تل المخفي (عوز 77)
الجنرال أفيغدور كهلاني، قائد كتيبة الدبابات الإسرائيلية في حرب تشرين/ أكتوبر عام 1973، والحائز على وسام الرئيس الإسرائيلي تقديرًا لمساهماته المستمرة لأمن “إسرائيل” على مرّ السنين، ما زال ملتزمًا كل عام بقيادة جولات سياحية إرشادية للطلبة المتخرجين من المرحلة الثانوية، قبل انضمامهم إلى شعبة التجنيد في الجيش الإسرائيلي، حيث يبلغ عددهم سنويًا حوالي 35 ألف طالب، فيستقبلهم أمام النصب التذكاري في ساحة المعركة التي خاضها، لتعزيز العقيدة القتالية لديهم، ويشرح تفاصيل المعارك العسكرية في مواجهة السوريين في أكبر معركة دبابات شهدها الشرق الأوسط، في منطقة تل المخافي (المخفي) أو في خربة القطراني وظهرة إبراهيم، ويطلق عليها الإسرائيليون معركة “وادي الدموع” (عوز77) لكثرة الدبابات التي شاركت فيها، ولكثرة أعداد المصابين من كلا الطرفين، وخلالها استطاع كهلاني استعادة التل، بعد انسحاب السوريين بعد أن تمكنوا من تحرير أغلبية أراضي الجولان، لكن الجيش الإسرائيلي استطاع إعادة احتلال الجولان وأراض سورية جديدة، حتى الثاني والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ونتج عن تلك المعركة إصابة 80 دبابة إسرائيلية، و300 دبابة سورية من أصل 350 دبابة، و500 عربة سورية وسعودية وعراقية. وخلال أربعة أيام من القتال الشرس، قُتل 76 جنديًا إسرائيليًا، وأُصيب قائد المعركة كهلاني بجراح بالغة، وتحوّل إلى أحد أبطال تلك الحرب، وبفضل دوره فيها أصبح عضو كنيست، ثم وزيرًا في الحكومة الإسرائيلية. ووفقًا لتقارير المخابرات العسكرية الإسرائيلية: “يجب على كل المؤسسات الإسرائيلية، وبخاصة الإعلامية والثقافية، رفع الروح المعنوية والحالة النفسية والذهنية للشبيبة الإسرائيلية، لتكون مستعدة لتقديم الواجب والدفاع عن أرض الوطن”، ويرى مروجو مشروع الثقافة الحربية أن كهلاني نموذج للقائد الإسرائيلي الشجاع، إذ جسّد صورة المقاتل الإسرائيلي الذي كسر شوكة السوريين، وأوقف تقدمهم في الجولان، وتستضيف سينما مستوطنة الروم (عيون الحجل السورية، على الطريق العام بين القنيطرة و مسعدة) كلّ الوفود السياحية لمشاهدة أسطورة القائد الإسرائيلي الذي لم يقهر وانتصر، بأسلوب عاطفي لا يخلو من بعض اللمسات الإنسانية التي يستعرضها الفيلم للتأثير العاطفي في المشاهد.
معركة تل الفخار
ضمن الطقوس العسكرية التي ما زال لواء “غولاني” في الجيش الإسرائيلي يحرص عليها، منذ احتلال تل الفخار في التاسع من حزيران عام 1967، تُجرى جولة تعريف بالإرث القتالي للجيش الإسرائيلي لكل فوج تجنيد جديد، ويُحمل شعار اللواء، وهو عبارة عن شجرة زيتون، في استيلاء واضح على الزيتونة الفلسطينية وسرقتها من أصحاب الأرض الشرعيين، واستيلاء على ما تمثله من قيم وتاريخ ومكانة عميقة الجذور في الوطن الفلسطيني السليب، ويتم ترديد نشيد اللواء “غولاني شيل” الذي جاء في كلماته: “غولاني أسطورة وقصة.. غولاني بدون كلل أو ملل. غولاني أمل الغد الذي يظهر مجددًا أمامي”، وذلك قبل الخضوع لبرنامج التدريب العسكري، بحسب موقع اللواء الإلكتروني.
تل الفخار الذي شهد معارك ضارية بين الإسرائيليين وضباط وجنود سورين كانوا داخل الموقع، (بعد رفضهم قرار الانسحاب الذي أصدره وزير الدفاع السوري حافظ الأسد آنذاك)، يجري فيه تسليم الغنائم التي بقيت من المعركة، إلى الفوج الجديد، وأبرز تلك الغنائم هو العلم السوري الذي كان مرفوعًا في سماء تل الفخار، حيث يحتفظون به ملفوفًا داخل عبوات بلاستيكية، ومغلفًا بقماش ضد الرطوبة، ويخرجونه بكل هيبة واحترام ضمن طقوس خاصة بلواء “غولاني”، ويسلمونه إلى الفوج الجديد، ويبدأ أحد الضباط الذين شاركوا في المعركة بتقديم شرح تفصيلي عن المعركة. واعتاد لواء المشاة “غولاني”، وهو من ألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي، تخليد معركة تل الفخار، وزيارة الدشم والخنادق والمخابئ والعنابر السورية، وهو يُعدّ من أكبر وأشد التحصينات العسكرية السورية قبل عام 1967، ويشرف على عدد كبير من المستوطنات الإسرائيلية المطلة على سهل الحولة، ويتعمد المسؤولون عن اللواء، بالتنسيق مع المجلس الإقليمي للمستوطنات الإسرائيلية ووزارة الدفاع والسياحة، دعوة أهالي القتلى والمحاربين القدماء وعوائلهم وبعض الملحقين العسكرين الأجانب، إلى إحياء ذكرى المعركة كل عام بأسلوب دعائي وإعلامي، وباستعراض الأعمال البطولية التي نفذوها خلال حروب إسرائيل، وخلال مواجهة الفلسطينيين، ويستعرضون أعمال القتل والطرد والتهجير التي شملت المدنيين، وتخليص البلاد من سكانها غير المرغوب فيهم، بشكل يعكس قوة وجبروت فرق اللواء العسكرية حين يتعلق الأمر بالأمن والقضاء على كل تهديد يمسّ أمن المواطن والدولة الإسرائيلية.
الضابط الإسرائيلي المسؤول عن استقبال الفوج الجديد قال أمام جنود اللواء المجندين الجدد: “لو كان كل أفراد الجيش السوري يملكون إرادة القتال التي كانت للجنود الشرسين الذين قاتلونا هنا، لما صمدت إسرائيل يومًا واحدًا في الحرب”، وأضاف: “سقط الموقع، ولكننا دفعنا الثمن غاليًا”. ونقلت صحيفة (معاريف الإسرائيلية) أن “مجموعة صغيرة متحصنة داخل الموقع صدت ثلاث فرق من الجيش الإسرائيلي، وكان عدد القتلى من الإسرائيليين كبيرًا جدًا”، وأضافت: “إن جميع الضباط والقادة من الفرق الإسرائيلية الثلاث قُتلوا في المعركة الشرسة، ودفع ذلك الضباط والجنود الإسرائيليين إلى رفع التحية العسكرية احترامًا للجنود السوريين، الذين فضّلوا الموت على الاستسلام.” قاتل لواء “غولاني” فرقة سورية شرسة جدًا، واستطاع سحقها، على الرغم من الثمن الكبير الذي تكبده عناصر اللواء (2).
الجيب المعلق على مفرق البطمية/ تل الفرس
هزيمة الجيش السوري في حرب حزيران شكّلت جرحًا عميقًا في كرامة السوريين، ليس لأنهم خسروا الحرب فحسب، بل لفشلهم في إعادة بناء دولتهم، ورفع المهانة الوطنية التي تعرضوا لها، ومحو الأفكار والقيادات والنهج والعوامل التي أدت إلى هذه الكارثة، بسقوط جزء غال من أرض وطنهم من دون قتال. على الرغم من أن الأمم والشعوب تتعرض لهزائم، فهي تنهض من جديد حين تتوفر لها قيادات تمتلك مشروعًا نهضويًا تحرريًا وطنيًا، وذلك على نقيض الحالة السورية التي تم فيها مكافأة المسؤولين عن الهزيمة، فاستأثروا بالسلطة السياسية والعسكرية في سورية، وحكموها بالقبضة الحديدية في مواجهة شعبهم، وكانت هزيمة حزيران وسقوط الجولان بداية سوداء جديدة للكوارث الوطنية السورية اللاحقة. وفي إهانة متعمدة، قامت فرقة من سلاح المدرعات الإسرائيلي، بعد دخولها وسيطرتها على مفرق البطمية، بالقرب من تل الفرس في حزيران/ يونيو 1967، بالاستيلاء على جيب عسكري سوري، إضافة إلى عدد كبير من الآليات العسكرية السورية التي بقيت على حالها بعد الانسحاب السريع من الجولان، ورفعته على عمود كهرباء، في رسالة إلى كل الزوار والسياح على التفوق الإسرائيلي في الحرب.
الضابط ميخا ريينر، الذي شغل في سلاح المدرعات ( رقم 336 )، قال في الشرح عن قصة الجيب: “تم استدعاؤنا للاحتياط عام 1967، ووُضِعنا بمحاذاة تل الفرس، في إحدى المعسكرات السورية المهجورة، في الجهة الغربية من مفرق البطمية، مكثنا حوالي أسبوعين من دون أن يكون لدينا أي عمل محدد، وكانت حركة السياحة قد بدأت مباشرة، وتخللها كثير من السرقات والزيارات إلى القرى المحيطة، للتعرف على الهضبة السورية التي طالما شكّلت تهديدًا كبيرًا علينا، وكنّا خارج اهتمام كل أولئك الزوار، فقررنا لفت انتباههم، والتوقف بجانب المعسكر، ووجدنا عربة جِيب عسكرية سورية، كانت بحالة جيدة جدًا، عدد من أفراد طاقم الهندسة اقترحوا رفع العربة السوري على عمود كهرباء بجانب المفرق، لم تكن لدينا رافعات ولا آليات تساعد في رفعه، وكان ذلك بربط حبال بإحدى المدرعات التي سحبت الجيب، وكان أحد أفراد الطاقم قد تسلّق على العمود لكي نتمكن من سحب الجيب إلى الأعلى، وما زال معلقًا كما تشاهدونه اليوم، أحد الجنود، واسمه منشه مصري، حاول التهكم أكثر، ووجد في إحدى الغرف داخل المعسكر بنطالًا وقميصًا لأحد الجنود السوريين، ووضعهما على كرسي السائق مع خوذة وبداخلها قش، بعد يومين وصلت قوات من الأمم المتحدة، وقدّمت شكوى إلى الشرطة العسكرية، اعتقدوا أننا رفعنا الجيب والسائق بداخله، وحين عرفوا الحكاية سحبوا الشكوى. لكن المشهد يستقطب كثيرًا من السياح والفضوليين، لمعرفة قصة الجيب المعلق. في حرب يوم الغفران (التسمية الإسرائيلية لحرب تشرين/ أكتوبر عام 1973)، مرت القوات السورية أمام الجيب، ولم يفكروا في إنزاله، وما زال معلقًا حتى اليوم (3).
تمثال حافظ الأسد في طبريا
فوق تل يرتفع 50 مترًا عن سطح البحر، على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا شمال قرية النقيب، وضع ضابط المدفعية السابق في الجيش الإسرائيلي عوزي كيرين تمثالًا مصنوعًا من الحديد، يجسّد صيادًا يرمي صنارته في مياه بحيرة طبريا، ويُعتقد أنه يصطاد السمك منها، في محاكاة استفزازية للرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وهناك يلتقط عدد من السياح الصور التذكارية له، فيما يطلق عدد من أبناء الجولان المحتل، كنوع من التهكم والسخرية، اسم “دوار الرئيس” على مدخل الشاطئ.
في أسفل التل إلى الغرب، تطل قرية النقيب السورية المدمرة (مستوطنة عين غيف الإسرائيلية) حيث فيها ينابيع المياه الدافئة التي تحوي مادة اليودين المشعّة بجانب البحيرة، ويطلق عليها الإسرائيليون شاطئ (غوفري). قديمًا أُطلق عليها اسم (حمة طبريا الصغيرة) نسبة إلى ينابيعها الساخنة المعدنية، وكانت أيضًا قرية فلسطينية صغيرة في جنوب الجولان فيها محطة من محطات قطار سكة الحديد التي كانت تربط حيفا بسكة الحجاز عبر قرية سمخ في الطرف الجنوبي لبحيرة طبريا.
الجنرال عوزي كيرن، أحد سكان مستوطنة عين غيف، الذي امتهن الحدادة بعد انتهاء خدمته العسكرية في سلاح المدفعية، حيث شارك سابقًا باحتلال قرية زعورة ومسعدة عام 1967، وشارك في عمليات صد القوات السورية، وتراجعها في حرب 1973، وأُصيب ثلاث مرات، وعمل سنوات سكرتيرًا لحزب الطريق الثالث الذي تزعّمه الجنرال أفيغدور كهلاني، ومسؤول الأمن في كيبوتس عين غيف، صنع التمثال الحديدي ووضعه في أعالي التل، عام 2000، كرسالة احتجاج إلى الحكومة الإسرائيلية التي تزعمها آنذاك إيهود بارك، لمنعه من استكمال المفاوضات مع حكومة الأسد، حول تسوية سياسية محتملة تُعيد بموجبها “إسرائيل” مرتفعات الجولان إلى السيادة السورية، وفي الوقت نفسه، يكون رسالة إلى الرئيس السوري الذي اشترط للتوقيع على مذكرة التفاهم بضمانة الوساطة الأميركية الوصولَ إلى الشواطئ الشرقية، واصطياد السمك والسباحة في مياه طبريا، كما كان يأمل سابقًا قبل احتلال الجولان عام 1967، فكان هذا العمل موّجهًا إليه كأنه يقول: (أيها الأسد: مارس أحلامك كما تشاء، لكنك لن تصل إلى المياه، ولن تأكل من أسماك طبريا). قد يكون هذا التمثال مجرد محاكاة ساخرة، ما زالت منذ عشرين عامًا تُعبّر عن حال الجولان في بورصة التجارة الأسدية التي استخدمت الجولان كورقة للاستهلاك السياسي والخطابي، وأداة لترويض وقمع الشعب السوري، وفي هذا الصدد، كتب الأستاذ الباحث سمير سعيفان، في مقال له بعنوان “استخدام احتلال الجولان” نُشر في العربي الجديد (3): “من تحليل سلوك النظام منذ 1974 حتى 2010، يمكن الاستنتاج أن الأسد قد ساوى في حساباته بين تحرير الجولان واستمراره محتلًا، وقد دفعه هذا للتشدد في المفاوضات مع إسرائيل، فإن تحرّر بالمفاوضات يجب أن يكون كاملًا غير منقوص من دون أبسط تنازل، وإن لم تقبل إسرائيل بذلك، فلا بأس أن يبقى الجولان محتلًا، فقد كان يرى أن بإمكانه احتمال استمرار الجولان محتلًا، فلاستمرار احتلاله وظيفة، إذ يخدمه في تثبيت سلطته، فتقدّم له حجة استمرار الصراع مع إسرائيل استمرار إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي أُعلنت في البيان رقم 2 صبيحة 8 آذار/ مارس 1963، وتبرّر الاحتفاظ بجيش كبير جدًا، وبأجهزة أمن متضخمة توجهت جهودها نحو ضبط الداخل، بينما ستؤدي عودة الجولان إلى سورية إلى فقدان كل تلك الذرائع، وإلى بروز المطالب الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى المقدمة، وهذا يضعف قبضته على السلطة”.
موسم السياحة الإسرائيلية يأتي في إطار تكريس الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري المحتل، بعدّه موقعًا إستراتيجيًا، وجزءًا من دولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد ضمه عام 1981، وتعززت مكانته في “إسرائيل” بعد اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالسيادة الإسرائيلية عليه، في 25 آذار/ مارس 2019، في ظل سعي إسرائيلي واضح لقلب الحقائق وتشوية التاريخ السوري، ولاستبدال الأسماء والمواقع والآثار السورية بالأسماء العبرية التوراتية، ولوضع بوسترات إرشادية إسرائيلية، وخرائط للتدليل عليها بشكل لا يمتّ للواقع والحقيقية والتاريخ بصلة، ولإقناع السياح والوفود الأجانب والإسرائيليين بأن كل الجولان ومناطق سوريّة كبيرة داخل حوران هي مناطق تاريخية إسرائيلية، وتحمل مورثًا يهوديًا منذ القدم، ويجب استعادته والمحافظة عليه.